لكل السوريين

الدولة… بين القدسية والواقع

صالح مسلم

مصطلح الدولة مستخدم من جانب الجميع ربما دون إدراك لماهيته ونشأته وتطوره. وضرورة وجود الدولة وعلاقتها بالمجتمع البشري، ونحن هنا لا نهدف إلى البحث في تفاصيلها وماهيتها، ولكن نطرح بعض النقاط والملاحظات لفتح المجال أمام النقاش والتفكير والتعمق في أسباب نشوئها وضروراتها.

الدولة هي هيكلية للتحكم بالمجتمع تتكون من مؤسسات وإدارات متكاملة تعني بشؤون المجتمع وتتحكم به. وضعت اللبنات الأولى لها مع الحضارة السومرية ثم تطورت بأشكال وأنماط متنوعة وصولاً إلى يومنا الراهن. والسؤال الأهم هو أيهما أولاً ، المجتمع أم الدولة ؟ والإجابة البديهية هي أن المجتمع البشري وجد لآلاف السنين من دون دولة، ولا يمكن أن تكون هناك دولة من دون مجتمع. بينما بالمقابل كان هناك مجتمع من دون دولة.

ظهرت الدولة مع تطور استغلال الإنسان للإنسان، أي ظهور احتكار السلطة والثروة. الزيغورات التي انتشرت في العهد السومري وأصبحت نواة لدولة المدن فيما بعد كانت الرحم الذي أولد الدولة وشكلها المستدام إلى يومنا الراهن بخطوطه العريضة. فالزيغورات تكونت من طبقات ثلاث، العليا والوسطى والسفلى. العليا يقطنها الرهبان أو الملوك الآلهة وشغلهم الشاغل هو تطوير النظريات والقوانين والأوامر والتوجيهات. أما الوسطى فيقطنها المنفذون الذين لهم علاقة مباشرة مع الرهبان الملوك لتلقي الأوامر والتعليمات، وكذلك علاقتهم واحتكاكهم مباشراً مع أولئك القاطنين في الطبقة السفلى العبيد (عامة المجتمع). وهؤلاء القاطنون في الطبقات الوسطى هم الذين احتكروا السلطة والثروة بشكل مباشر مع مرور الزمن لأنهم استطاعوا إضفاء صفة الرهبنة ثم الملوكية ثم الألوهية على الطبقة العليا أي صبغة القدسية التي لا تقبل النقاش، وهذه القدسية تسري على نظام العلاقات التي رسمتها الطبقات العليا أيضاً.

على هذه الأسس نشات دول المدن فأصبح لكل مدينة ملكها أو آلهتها او حتى أسرتها الحاكمة، ولكل فرعون هامانه الذي يمثل السلطة المباشرة، ثم بدأت الكبيرة تأكل الصغيرة وتتوسع وصولاً إلى الإمبراطوريات الكبيرة العظمى التي نشهدها في التاريخ المكتوب. والصراعات التي يذكرها التاريخ كانت بين احتكارات السلطة والثروة في كل دولة من تلك الدول لزيادة ثروتها وتوسيع نفوذها مستخدمة المجتمع (العبيد) وقوداً لتلك الحروب، أي المجتمعات كانت ولا زالت تدفع ثمن تلك الحروب والنزاعات.

بعضهم اضفى صبغة الألوهية على ملوكهم كفرعون ونمرود ليتحكموا هم بالمجتمع وبعضهم رفعوا الإله إلى السموات ليحكموا هم الأرض باسم الإله كخليفة له ويصدرون الأوامر والتعاليم باسم الإله ويضفوا القدسية على كل ما يصدر من الإله بشأن النظام الذي أقاموه والذي يتمثل في جهاز الدولة المقدسة وقوانينها.

شكل الدولة وحكامها تغيروا عبر التاريخ وحسب المكان الجغرافي ومسمياتها، ولكن الخطوط العريضة للهيكلة ووسائل بسط السلطة بقيت متماثلة في كافة بقاع الأرض. فكان الحكام أسرة حاكمة أوقبيلة حاكمة أو قوماً حاكماً أو إقطاعية حاكمة أو شريحة حاكمة أو حزباً حاكماً، وتراوحت أشكال الحكم بين المونارشية أو الأوليغارشية، ولكنها كلها بقيت بعيدة عن الديموقراطية التي تعني حكم الشعب. فحتى في ديموقراطية أثينا كانت مخصصة لفئة الأحرار الرجال دون العبيد والنساء مما يعني أن أغلبية المجتمع لم يكن يقرر مصيره أو ينظم شؤون دولته.

النقطة الأهم في نقاش الدولة هي أن جهاز الدولة يمثل إحتكار السلطة والثروة، وكل القوانين التي يضعها جهاز الدولة هي في سبيل الحفاظ على مصالح تلك الإحتكارات، ولهذا فإن جهاز الدولة بعيد عن الديموقراطية (حكم الشعب) كلما كان قوياً، أي أن قوة جهاز الدولة يتناسب عكسياً مع الديموقراطية. أما الدولة المثالية فيجب أن تكون جهازاً إدارياً منسقاً بين شرائح المجتمع ومنظماته الديموقراطية التي تعمل لمصلحة الشعب. بينما على أرض الواقع نرى أن أجهزة الدولة تتحول إلى وحش كاسر عندما يكون هناك خطر على احتكارات السلطة والثروة، فهي لا تتورع عن إبادة شعوبها وحتى الشعوب الأخرى كما نراها في يومنا الراهن. وخاصة إذا تجمعت تلك الإحتكارات في يد شخص واحد أو زمرة واحدة.