لكل السوريين

الأمة الديمقراطية

لسنا بصدد دراسة تاريخ مصطلح الأمة ومدلولاتها عبر التاريخ، ولكن نعلم أنها مجموعة من البشر تتألف من مكونات أو فئات متمايزة أو متطابقة فيما بينها، التم شملهم على عوامل وقيم مشتركة يتمسكون بها ويدافعون عنها ويصونونها للارتباط المصيري بإدامة هذه العوامل كإطار طوعي، وإذا تعرضت بعض هذه العوامل للزوال أو الانحراف أصيبت الأمة بالوهن أو حتى الشقاق.

عبر التاريخ ظهرت أمم سادت ثم بادت مما يعني أن مقوماتها لم تتناسب مع العصور اللاحقة ومستجداتها، فربما لم يكن هناك مصطلح الأمة آنذاك ولكنها كانت كذلك. ما وصل إلى يومنا هذا هي تسميات مثل الأمة العربية او الأمة الإسلامية أو الأمة التركية أو الأمة الفارسية أو الأمة الألمانية… إلخ. والصفة المشتركة بين هكذا أمم أنها تضم مكونات أو حتى دولاً مختلفة متنوعة تجمعها بعض العوامل أو حتى عامل واحد مشترك تتمسك به جميع المكونات. فالأمة العربية تجمع بينها العروبة وتضم العديد من الدول والانتماءات العقائدية والمذهبية وحتى العديد من الأقليات غير عربية الانتماء ولكنها تحيا في كنف الشعوب العربية وتتعرض للصهر والتذويب.  وكذلك بالنسبة للأمة الإسلامية التي تضم شعوباً وطوائف ومذاهب مختلفة. ثمة جانب آخر بالنسبة للأمم ذات الإطار الواسع وتتألف من أطياف الانتماءات مما يجعلها ميداناُ للصراعات المختلفة كما نشهدها اليوم، مما يعني أن تلك الإطارات الفضفاضة لم تعد تحقق الاستقرار والرفاهية التي يطمح إليها الجميع ويناضل من أجل تحقيقها. والأمر الملاحظ أن الإمبراطوريات والدول التي تشكلت عبر التاريخ لم تقتصر على أمة واحدة وحتى الدول التي تشكلت باسم السلالات والأقوام لم تقتصر على أمة واحدة متجانسة.

بذور الدولة القومية بدأت تنبت في النصف الثاني من الألفية الثانية في غرب أوروبا نتيجة لتوسع الاستعمار والمستعمرات وتوسع التجارة ونماء الصناعة واحتكارات الرأسمالية إلى أن تجسدت بشكل بارز في الثورة الفرنسية لتنتشر كفكر معاصر في عموم أوروبا، مما تسبب في صراعات على الأرض والحدود والنفوذ والهيمنة وصولاً إلى حربين عالميتين قضتا على الأخضر واليابس. ومن الجدير ذكره أن تلك الحروب كانت بين الطبقات الحاكمة لكل شعب أو قوم أي الفئات المحتكرة للسلطة والثروة كما في سائر الدول، أما وقودها فهو أبناء وبنات تلك الشعوب الذين يندفعون إلى الحروب تحت شعارات فضفاضة مثل حماية الوطن وكرامة الأمة، بينما المستفيد هو احتكارات السلطة والثروة وتجار الحروب، وهكذا راح أكثر من ثلاثمائة مليون شخص ضحية لتلك الحروب.

نتيجة لتطور وسائل الحرب وأسلحة الدمار الشامل كان لا بد من إيجاد وسيلة للحد من هذا التوجه للبشرية نحو تدمير الذات. ولهذا تم تأسيس هيئة الأمم المتحدة وظهرت تحالفات إقليمية وقارية في سبيل الحد من الصراعات والحروب، وكذلك ظهرت محاولات بناء الاتحاد الأوروبي الذي يحاول إزالة حدود الدولة القومية التي تم رسمها بدماء الأوروبيين، وبدأ توجيه الانتقادات لاحتكار السلطة والثروة المتمثلة في حكام الدولة القومية، وكذلك ظهر مفهوم “الديموقراطية الجذرية” لمشاركة الشعب في القرار السياسي للبلاد لمنع احتكار السلطة، وعلى الصعيد الاقتصادي تم العمل بالجمعيات التعاونية للحيلولة دون احتكارات الثروة، وتم منح الحريات الفردية والجماعية بما في ذلك حق التنظيم للمكونات الأثنية والعقائدية. والملاحظ أن كل الدول الأوروبية التي عملت بهذه التوجهات حققت الاستقرار، بينما الدول التي تتردد في تطبيقها فلا زالت تواجه القلاقل والاضطرابات، ولابد أن تقوم بذلك في المستقبل.

وطننا السوري فسيفساء جميلة بألوانها وانتماءاتها الأثنية والعقائدية توارثناها من الآباء والأجداد. ففيها العربي والكردي والآشوري والسرياني والأرمني والتركماني والشركسي. وعقائديا هناك السني والشيعي والدروزي والإسماعيلي والمسيحي والإيزيدي. ولكل مكون أثني وعقائدي ثقافته وتقاليده وتراثه الأصيل الذي يتمسك به. وحرمان أي مكون من هذه الحقوق يعني قنبلة موقوتة تلحق الدمار بالجميع. فما هو السبيل إلى جعل كل هذا التنوع يحيا في حيز واحد والحياة المشتركة وقبول الآخر مع الحفاظ على أصالته وهويته؟ بالاستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين هل هناك سبيل سوى “الأمة الديموقراطية” التي تعني الديموقراطية الجذرية لمشاركة الجميع في القرار السياسي، والحريات الفردية والجماعية ليشعر كل شخص بانتمائه السوري طوعاً واختيارا وليس إرغاماً. والعمل بالاقتصاد المجتمعي والجمعيات التعاونية لعدم إعطاء الفرصة للاحتكارات والتحكم بمقدرات الشعب.

هذا هو المشروع الذي يمليه علينا الواقع السوري وتجارب البشرية والأمم والشعوب إذا كنا نريد بناء سوريا جديدة بعد العبث والدمار الذي لحق بنا نتيجة للاستبداد والقوى الظلامية وأطماع قوى الهيمنة العالمية والإقليمية وأدواتها، ربما يقول قائل أن ذلك خيالي أو مستحيل، ولكن إرادة الشعوب لا تعترف بالمستحيل، وكم من خيالات أصبحت واقعاً، وما علينا إلا أن نضع لأنفسنا خارطة طريق لتحديد مسارنا ونبدأ بإلقاء الخطوة الأولى. والحقيقة هي أنه جرى إلقاء الخطوات الأولى في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، ويمكن للجميع أن يسترشد بها ويصحح أخطائها.