شكل التقارب الدبلوماسي الذي تجريه سلطة دمشق مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، ذريعة لتنظيم “داعش” لإثارة المقاتلين الأجانب ضد السلطة، حيث اعتبر التنظيم هذا التقارب موالاة لـ”أعداء الإسلام” من قبل جماعة كانت تصنف ذات يوم بين الجماعات الإسلامية المتشددة.
ترافقت هذه الحملة الإعلامية مع تصاعد ملحوظ في نشاط “داعش” في مناطق خاضعة لسيطرة سلطة دمشق. ولم يعد يركز فقط على استعادة الأراضي كما في السابق، بل بات يركز على اختراق اللحظات الهشة من الانتقال السياسي، عبر استغلال المشاعر السائدة من الخوف والغضب والاستياء السياسي. فالحملة الأخيرة تعكس محاولة مدروسة لإعادة التموضع لا تعتمد فقط على السلاح، بل على “الهندسة النفسية” للفصائل الجهادية المتأثرة بتغير المشهد السياسي.
وبحسب ما رصدته مصادر إعلامية وميدانية، وجه تنظيم “داعش” عبر صحيفته الأسبوعية “النبأ” دعوات علنية إلى المقاتلين الأجانب المتواجدين في سوريا، بمن فيهم عناصر من “هيئة تحرير الشام”، للانضمام إلى صفوفه، مشككاً في نوايا السلطات ومتهماً إياها بالتخطيط لتهميشهم أو تسليمهم. وقد صور التنظيم نفسه كـ”المدافع الأمين” عن العقيدة الجهادية، في محاولة لكسب ثقة المقاتلين الذين فقدوا الثقة بفصائلهم الأم، خاصة بعد انهيار نظام بشار الأسد في كانون الأول.
ورغم العداء التاريخي بين “داعش” وهيئة تحرير الشام، إلا أن التنظيم يستغل اليوم موجة الإدانات الصادرة عن رموز التيار الجهادي للانفتاح السياسي الذي أبداه الشرع، ليقدم نفسه كبديل عقائدي أكثر صلابة ونقاءً.
لم يتوقف التنظيم عند الدعوات المباشرة، بل صعّد من حملاته على وسائل التواصل الاجتماعي، محذراً المقاتلين الأجانب من أن سلطة دمشق ستقوم بخيانتهم لصالح إرضاء المجتمع الدولي. وفي هذا السياق، تم تداول مزاعم حول وجود حملة أمنية تستهدف هؤلاء المقاتلين، رغم نفي رسمي من وزارة الداخلية التابعة للسلطة لوجود أي عمليات من هذا النوع.
ويأتي توقيت هذه المزاعم وانتشارها يوحي بوجود تنسيق، حتى إن لم يكن هناك دليل مباشر على تورط “داعش” في صناعتها، فإن التنظيم هو المستفيد الأكبر من مناخ الخوف وانعدام الثقة الذي تخلقه مثل هذه الحملات.
ميدانياً، أفادت مصادر محلية بوجود تحركات لعناصر التنظيم في بادية حمص، حيث يُعتقد أنهم بدأوا بالتسلل نحو المناطق الحضرية، في تكرار لنمط تكتيكي اتبعه التنظيم في مراحل سابقة من الصراع السوري.
وقد أعلنت سلطة دمشق عن اعتقال خلايا تابعة للتنظيم في كل من درعا، حلب، وإدلب، مشيرة إلى إحباط عدة مخططات إرهابية، من بينها محاولات لاستهداف مقام السيدة زينب وكنيسة في معلولا.
ورغم الجهود الأمنية، نجح التنظيم في تنفيذ تفجير بسيارة مفخخة في 18 أيار، استهدف موقعاً أمنياً في الميادين بدير الزور، وأسفر عن مقتل خمسة عناصر أمن. كما اتُّهم التنظيم بالوقوف خلف سلسلة اغتيالات استهدفت عناصر أمنية في إدلب.
وفي 26 أيار، أعلن قائد الأمن الداخلي في ريف دمشق، حسام الطحان، التابع لسلطة دمشق عن إلقاء القبض على عدد من عناصر التنظيم، وضبط أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة، شملت قواعد إطلاق صواريخ وعبوات ناسفة وسترات انتحارية.
ورغم عدم عودة التنظيم إلى قوته السابقة، لكن الاستخفاف بالتهديد الذي يشكله “داعش” في هذه المرحلة قد يكون خطأ فادحاً. فالتنظيم عُرف سابقاً باستخدام “الصمت التكتيكي”، حيث يمر بفترات من الهدوء الظاهري يعيد خلالها بناء صفوفه، وتثبيت خلاياه النائمة، إلى حين الانقضاض في الوقت المناسب.
وفي ظل هشاشة المرحلة الانتقالية والانقسامات السياسية والطائفية المتجذرة، قد تؤدي حتى العمليات الصغيرة أو الحملات الدعائية إلى نتائج كارثية. وتُظهر المعطيات أن التنظيم يتكيف مع الظروف الجديدة، ويستخدم أدوات مختلفة عن تلك التي استخدمها في أوج صعوده، مثل التلاعب بالوعي الجمعي، ونشر الخوف، وبث الفتنة داخل الصفوف الجهادية.
وقد مثّل تسجيل مزيف تداول مؤخراً، يدعو إلى العنف ضد أبناء الطائفة الدرزية، دليلاً إضافياً على استخدام التنظيم لأدوات التضليل والخداع بدل المواجهة المباشرة.
لا يحتاج تنظيم “داعش” إلى استعادة المدن ليعود لاعباً أساسياً. ففي بلد لا تزال تعاني من آثار حرب مدمرة استمرت أكثر من عقد، يبقى انعدام الاستقرار هو الأوكسجين الذي يتنفسه التنظيم، ويعزز من فرص نهوضه.
وبالتالي، فإن الطريق الأمثل لمواجهة هذا الخطر لا يمر فقط عبر المواجهة الأمنية، بل يتطلب من الحكومة الانتقالية العمل الجاد على معالجة الأسباب الجذرية للتطرف، من ظلم منهجي، وتهميش سياسي، وتراكم للمظالم غير المعالجة.