حاوره/ مجد محمد
نوه عمار الحمود بأن الساحة السياسية في تركيا تعكس صراعاً حاداً يتجاوز الخلافات الحزبية العادية، ليصل إلى رسم مستقبل النظام السياسي في البلاد، فالحسابات الانتخابية لم تعد منفصلةً عن التغيرات الدستورية، كما أن التكتيكات السياسية باتت مرتبطةً مباشرةً بضرورات البقاء في الحكم.
تعود قضية الانتخابات المبكرة إلى واجهة الجدل مرةً أخرى في المشهد السياسي التركي المتقلب، مدفوعةً بزخمٍ غير اعتيادي من قبل أحزاب المعارضة، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري، حيث طالب زعيم الحزب أوزغور أوزيل، في ٦ أبريل/نيسان ٢٠٢٥، بإجراء انتخابات مبكرة في موعدٍ لا يتجاوز نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أي بعد أن تمضي نصف مدة ولاية الرئيس رجب طيب أردوغان الحالية. جاءت هذه المطالب بعد نحو عشرة أيامٍ من الاحتجاجات، على خلفية توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو. ولا تأتي هذه الدعوة من فراغٍ، بل ترتكز على معطياتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ، يرى المعارضون أنها باتت تتطلب إعادة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، لا سيما في ظل ما يعتبرونه انسدادًا في الأفق الإصلاحي للنظام القائم.
وبهذا الخصوص، عقدت صحيفتنا “السوري” حواراً مطولاً مع الأستاذ عمار الحمود، عضو الحزب التقدمي الوطني، ودار الحوار التالي:
– رغم حكم أردوغان حالياً، إلا أن جميع الأوساط السياسية باتت تتحدث عن مرحلة ما بعد أردوغان، ما تفسير ذلك؟
منذ توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي يُعد أبرز منافسي أردوغان في الاستحقاقات المقبلة، تبنى أوزغور أوزيل خطاباً تعبوياً يستثمر الغضب الشعبي المتنامي، مستنداً إلى سرديتين مزدوجتين: الأولى سردية المظلومية السياسية، كما هو حال الكرد وتوقيف إمام أوغلو، والثانية سردية الفرصة التاريخية. السردية الأولى تروج لفكرة أن السلطة الحاكمة تستخدم القضاء والأجهزة الأمنية لتصفية الحسابات مع شخصيات المعارضة الصاعدة، والثانية تؤكد أن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة شكلت نقطة تحولٍ في المزاج الشعبي، ويمكن ترجمتها في صناديق الاقتراع لصالح تغيير القيادة السياسية للبلاد. فالتحركات الاحتجاجية الأخيرة، والخطاب السياسي المتشدد الذي يتبناه حزب الشعب الجمهوري، لا يفهم بمعزلٍ عن هذا السياق، إذ يدرك الحزب أن شعبيته شهدت انتعاشاً ملحوظاً بعد الانتخابات البلدية في مارس/آذار ٢٠٢٤، التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم عدداً كبيراً من البلديات الكبرى. وقد سمحت هذه النتائج للمعارضة ببناء سردية “ما بعد الحزب الحاكم”، أي أن تركيا تجاوزت مرحلة أردوغان، وأن مشروع العدالة والتنمية بات يعيش مرحلته المتأخرة. وهذا ما جعل أوزيل يتحدث بثقةٍ غير مسبوقة عن ترشيح منافسٍ قوي لأردوغان، بل ويقدم نفسه كمن سيقود أكبر حملة تعبئةٍ شعبية منذ أكثر من عشر سنواتٍ، احتجاجاً على ما يعتبره انقلاباً سياسياً من قبل السلطة التنفيذية على البلديات المنتخبة.
– ولكن، هل من الممكن أن تكون المعارضة قادرةً على فرض إجراء انتخابات مبكرة في هذا الوضع؟
تدرك المعارضة أنها تواجه معضلتين كبيرتين؛ الأولى: أن الدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ تفتقر حتى الآن إلى توافقٍ وطني عابرٍ للأحزاب، مما يجعلها تبدو كصراعٍ حزبي أكثر من كونها مطلباً عاماً. والثانية: أن الرئيس أردوغان لا يزال يتمتع بشعبيةٍ لا يستهان بها، رغم كل التحديات الاقتصادية، كما أنه يرفض حتى الآن الدخول في دوامةٍ انتخابيةٍ جديدة قبل موعدها الطبيعي في عام ٢٠٢٨. فقد جاءت تصريحات أردوغان في سبتمبر/أيلول الماضي واضحةً وشبه حاسمة، إذ قال: “أمامنا أربع سنواتٍ دون انتخابات”، معتبراً أن الدعوات المبكرة ما هي إلا محاولةٌ من المعارضة للهروب من مأزقها الداخلي، ومحاولةٌ لاستثمار ظرفٍ اقتصادي طارئٍ لتحقيق مكاسب سياسيةٍ لا تستند إلى شرعيةٍ كافية.
– دستورياً وقانونياً، هل من الممكن في الأحوال الطبيعية إجراء انتخاباتٍ مبكرة؟
الواقع الدستوري يجعل من الانتخابات المبكرة أداةً في يد السلطة أكثر مما هي في يد المعارضة، إذ ينص الدستور التركي على أن الانتخابات المبكرة لا يمكن أن تجرى إلا في حالتين: إما بقرارٍ من رئيس الجمهورية، وهو ما يسقط حقه في الترشح مجدداً، أو بقرارٍ من ٣٦٠ نائباً في البرلمان، وهو رقم لا يمكن تحقيقه دون موافقة حزب العدالة والتنمية، الذي لا يزال يملك الأغلبية. هذا الواقع يجعل من دعوات المعارضة، في بعدها القانوني، مجرد ضغطٍ سياسي لا أكثر، لكنها في الوقت نفسه قد تجبر أردوغان على إعادة النظر في حساباته، خاصةً إذا ما فشل في تمرير مشروع الدستور الجديد الذي يعمل عليه تحالف الشعب الحاكم، بالشراكة مع حزب الحركة القومية.
– أردوغان لا يمتلك حق الترشح مجدداً حسب الدستور التركي، هل فعلاً هو الآن يحاول تعديل الدستور؟
المعارضة تدرك أنه لا يمكن إجراء الانتخابات المبكرة، وفق النصوص الدستورية، دون مباركة حزب العدالة والتنمية، وما لم يدعُ إليها رئيس الجمهورية نفسه. إلا أن أردوغان يدرك أنه سيفقد حق الترشح مجدداً إذا انتظر حتى الموعد الرسمي للانتخابات القادمة. هذه المعادلة تضع أردوغان في زاويةٍ حرجة؛ فهو من جهةٍ لا يمكنه خوض انتخاباتٍ جديدة في عام ٢٠٢٨ وفقًا لنصوص الدستور، ما لم يعدل، ومن جهةٍ أخرى، يدرك أن أي تحركٍ باتجاه تعديل دستوري سيواجه عقباتٍ كبيرة داخل البرلمان وفي الشارع، كما سيفتح جبهة مواجهةٍ مع قوى المعارضة المتحفزة. وهنا تتبدى المفارقة؛ فالدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ، التي ترفعها المعارضة كأداةٍ للضغط على النظام، قد تتحول في نهاية المطاف إلى طوق نجاةٍ دستوري يسمح لأردوغان بالترشح للمرة الأخيرة من بوابة البرلمان، إذا ما جرت الانتخابات بموافقته قبل إتمامه نصف ولايته الحالية.
– أردوغان، لأجل الحفاظ على منصبه، يسعى للتناغم مع المعارضة الكردية، كيف ذلك؟
نعم، يواصل الرئيس رجب طيب أردوغان اتباع تكتيكاتٍ دقيقة، هدفها الأساسي الحفاظ على موقعه في السلطة، ومن أبرز هذه التكتيكات محاولة تشكيل معارضةٍ تحت السيطرة، من خلال توظيف الورقة الكردية في لحظةٍ سياسية دقيقةٍ تتقاطع فيها الحسابات الانتخابية مع تحولاتٍ دستوريةٍ حساسة. حيث يستغل أردوغان المبادرة التي أطلقها زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي تجاه زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، والتي رد عليها الأخير من سجنه بالدعوة إلى حل الحزب وإلقاء السلاح، في خطوةٍ بدت وكأنها بداية تحولٍ في موقف الدولة من القضية الكردية. لكن هذه التطورات لم تنبع من قناعةٍ ذاتية لدى بهجلي أو أردوغان، بل جاءت تحت ضغط ظروفٍ داخليةٍ وخارجية، على رأسها مخاوف الدولة التركية العميقة من استمرار سياسة الصدام مع الكرد، في ظل ملامح تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ترعاه إسرائيل بدعمٍ أمريكي. وفي هذا الإطار، يمكن فهم رسائل التودد الرسمية من قبل أردوغان إلى القاعدة الكردية، من التهنئة بعيد النوروز إلى استقباله وفد إيمرالي، بوصفها جزءاً من لعبةٍ مزدوجةٍ تهدف إلى كسب قاعدةٍ واسعةٍ من الناخبين الكرد، وتحييدهم عن التحالفات المعارضة، بما يعزز موقع النظام الحاكم ويضعف جبهة خصومه في الانتخابات المقبلة.
– ختاماً، أردوغان في وضعٍ حرج، كلمةٌ أخيرةٌ تحب أن تضيفها، المجال مفتوح أمامك..
لم تعد دعوات الانتخابات المبكرة مجرد تعبيرٍ عن رغبةٍ ديمقراطية، بل تحولت إلى أداةٍ في معركةٍ استراتيجيةٍ معقدة، تجمع بين القانون والمصالح الحزبية، وتُوظَّف فيها المطالب الشعبية لخدمة أهدافٍ سلطوية. إنها معادلةٌ دقيقةٌ ومتشابكة، ستلعب دوراً حاسماً في رسم ملامح الجمهورية التركية خلال العقود القادمة. ولعل المعضلة الأكبر أمام أردوغان اليوم لا تتعلق فقط بكيفية التعامل مع دعوات المعارضة، بل بكيفية تجاوز القيد الدستوري الذي يمنعه من الترشح مجدداً، بعد أن انتُخب مرتين في ظل النظام الرئاسي الجديد الذي دخل حيز التنفيذ منذ عام ٢٠١٧.