لكل السوريين

التعليم هو المنجم الوحيد، الذي تجد فيه الشعوب حجارتها الكريمة

عبد الرحمن العيسى

منذ فترة كنت أقرأ سيرة أحد الرجال العظماء، فإذا هو قد مارس التعليم في مطلع شبابه، وفي وسعك أن تقرأ سيرة حياة العظماء جميعا، منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا، فتجد أن الكثرة الساحقة منهم، خرجت من مقاعد التدريس، إلى مقعد القيادة. فالتعليم هو المنجم الوحيد، الذي تجد فيه الشعوب حجارتها الكريمة.

فالمعلم وتلاميذه دنيا قائمة بذاتها، وعالم ناشئ، يبني العالم المقبل. وفي رأيي أن مهنة التعليم، أشرف المهن وأشقها على الاطلاق: فأما أنها أشرف المهن، فلأنها أبعدها عن الأنانية، وأشدها إنكارا للذات: ألا ترى أن المعلم لا يعيش لنفسه، بل لتلاميذه، ولا يدرس، ويتعلم، وينقب، ويسهر الليل، إلا ليحمل ثمرات عمله المنهك، إلى هؤلاء الذين ينتظرونه على مقاعد المدرسة في الصباح.

حتى إذا انتهت السنة، مضى أمامه فوج، وحل محله فوج جديد، يعاود المعلم معه سيرته الأولى. وهكذا تمر الأجيال تحت نظر المعلم، فينشأ منها الأبطال والفنانون، والعلماء والمخترعون، فيقتحمون الحياة، يحاربون بالسلاح الذي وضعه في أيديهم ذلك البطل المجهول.

وأما أنها أشق المهن، فلأن الساعات التي يعمل فيها المعلم، لا تبيح له راحة أو هدنة، فهو أبدا يشرح، ويتكلم، ويناقش، وعشرات العيون محدقة إليه، وعشرات الآذان مصغية إلى كلماته.

وهو يواجه في كل ساعة مشكلة من هذه المشاكل الصغيرة، التي لا يشعر بها سائر الناس: فهناك التلميذ اللعين: ينتظره على هفوة تبدر منه، ولا بد للمعلم من التدبر والحيطة. وهناك التلميذ البليد، ينظر ولا يرى، ويصغي ولا يفهم، فلا بد للمعلم من إيقاظه، وبعث الحياة في جسمه المتراخي. وهناك التلميذ الذي لم يحسن والداه تربيته، ولا بد للمعلم من تهذيبه، وإحلال نفسه محل والديه.

هذه المهنة الشاقة! هذه المهنة الشريفة! هذه الناحية المنعزلة من ضجيج الحياة وصخبها، أين نحن من إدراكها وسبر أغوارها؟ بل أين نحن من قدرها ورفعها إلى المنزلة التي تستحق؟ أيها المعلمون! حسبكم فخرا وجزاء وشرفا، أن العالم صنع أيديكم.