لكل السوريين

“التكويع”.. وجدلية القمع والتغيير

عبد الكريم البليخ

منذ سقوط النظام السوري الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لعقود طويلة، أفرزت التحولات السياسية والاجتماعية مصطلحات جديدة تعبّر عن تغيرات جوهرية في مواقف الناس وسلوكهم، لعلّ أبرزها مصطلح “التكويع”. هذا المصطلح الشعبي يستخدم لوصف انتقال الأفراد أو المجموعات من تأييد النظام السابق إلى الاصطفاف مع القوى الجديدة، سواء كانت معارضة أو حكومة انتقالية. رغم الطابع الساخر أو الانتقادي لهذا المصطلح، فإن “التكويع” ليس مجرد تحول مفاجئ في المواقف، بل هو ظاهرة اجتماعية معقدة تعكس تأثير سنوات طويلة من القمع والخوف. لفهم هذه الظاهرة بعمق، يجب النظر في السياقات التي دفعت الأفراد لاتخاذ قراراتهم في الماضي، وكيف تغيرت مواقفهم مع تبدل الظروف.

في عهد النظام السابق، كان الخوف هو العامل المهيمن الذي شكل تصرفات السوريين. أجهزة الأمن القمعية، والاعتقالات التعسفية، والترهيب المستمر، جعلت من التعبير عن المعارضة مخاطرة كبيرة قد تؤدي إلى السجن أو التعذيب أو حتى الموت. أمام هذا الواقع، لجأ كثيرون إلى الصمت، أو حتى إظهار تأييدهم للنظام حفاظاً على حياتهم وحياة عائلاتهم. هذه المواقف لم تكن دائماً نابعة من قناعة، بل كانت استراتيجية للبقاء في ظل ظروف قاهرة. الخوف من المجهول، سواء كان في هيئة اعتقال أو فقدان مصدر رزق، جعل السوريين يعيشون في حالة من الحذر الدائم، حيث أي حركة خاطئة قد تودي بهم إلى المجهول.

مع سقوط النظام وظهور واقع سياسي جديد، تغيرت المواقف بشكل طبيعي. البعض وجد في سقوط النظام فرصة للتعبير عن آرائه الحقيقية بعد سنوات من القمع، والبعض الآخر قرر الاصطفاف مع القوى الجديدة بدافع الأمل في مستقبل أفضل. هذه التغيرات، التي تعد طبيعية في أي مرحلة انتقالية، أصبحت موضع جدل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. منصة “فيسبوك”، على وجه الخصوص، تحولت إلى ساحة للاتهامات المتبادلة، حيث يُتهم البعض بالتكويع والنفاق بناءً على مواقفهم الجديدة، بينما يُلام آخرون على صمتهم في الماضي. هذا النقاش الافتراضي لم يقتصر على السخرية أو النقد، بل كشف عن انقسامات عميقة في المجتمع السوري.

رغم هذه الانقسامات، يجب النظر إلى “التكويع” من منظور أكثر شمولية. في جوهره، يعكس التكويع قدرة الإنسان على التكيّف مع الظروف المتغيرة، سواء بدافع الخوف أو الأمل. الحكم على هذه التحولات من منظور أخلاقي صارم يتجاهل تعقيدات الوضع السوري، حيث عاش الجميع تقريباً تحت وطأة نظام قمعي لم يترك لهم خيارات كثيرة. يجب أن نفهم أن التحولات في المواقف ليست دائماً دليلاً على نفاق، بل قد تكون انعكاساً لحاجة الإنسان إلى التكيّف مع متغيرات حياته.

وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما تقدمه من فرصة للتواصل والتعبير، ساهمت في تعميق الانقسامات بدلاً من معالجتها. الاتهامات بالتكويع تُستخدم أحياناً لتصفية الحسابات أو لإثارة الفتنة بين الناس، مما يزيد من التوتر في مجتمع يحتاج إلى الوحدة. بدلاً من استخدام هذه المنصات للتصنيف والجدل، يمكن أن تصبح وسيلة لتعزيز التفاهم والتسامح، من خلال خلق حوار بناء يركز على المستقبل بدلاً من الماضي.

النسيج الاجتماعي السوري يتميز بتنوع ثقافي وديني عريق، وقد أثبت التاريخ أن السوريين قادرون على التعايش رغم اختلافاتهم. هذه القدرة على التعايش يجب أن تكون الأساس لإعادة بناء المجتمع بعد سنوات من الانقسام والقمع.

اليوم، يحتاج السوريون إلى خطاب يدعو إلى الوحدة والاحترام المتبادل، بعيداً عن الاتهامات والجدالات العقيمة. المصالحة الحقيقية تبدأ من فهم أن ما مرّ به السوريون من خوف وصمت لم يكن خياراً طوعياً، بل نتيجة لظروف قاسية فرضها نظام قمعي. بناء مجتمع جديد يتطلب تجاوز الأحقاد والتركيز على الأهداف المشتركة، مثل الحرية والعدالة والكرامة. يمكن للسوريين تجاوز هذه الظاهرة والعمل معاً لبناء وطن يستحقونه جميعاً، وطن يجمعهم تحت مظلة الحرية والعدالة والمساواة.