حول الهوية والقضية الوطنية
إعداد أنعام إبراهيم نيوف
عندما نريد بناء دولة حقيقة واحدة، فهذه الدولة يجب أن يكون لها هويتها الكاملة الخاصة المنفصلة عن أية هوية أخرى، وهذه الهوية يجب أن تكون هوية شعبية واحدة تتجاوز كل الهويات الفئوية بدون استثناء وتعلو عليها جميعا، فإذا أردنا بناء الدولة السورية الحديثة، فبناؤها يجب أن يتم على أساس الهوية السورية أو الهوية الوطنية السورية، وهذه الهوية السورية يجب أن تكون متجاوزة تماما لكل الهويات الأخرى، سواء الدينية منها أو العرقية أو الحزبية أو غيرها.. بحيث لا يكون هناك إلا هوية واحدة ونحن واحدة تبنى عليهما الدولة السورية الحقيقية، وهما الهوية السورية والنحن السورية، وهنا تصبح الأنا السورية مرتبطة بالدولة السورية والمواطنة السورية والوطن السوري، فأنا سوري معناها أنني كذلك لأني مواطن سوري، وسوريا هي دولتي ووطني.
الهويات الفئوية وجماعاتها لا مكان لها بتاتا في بنية الدولة، أو في مؤسسة الدولة، وهذه الهويات والجماعات التي تتكون على أساسها، لا تدخل بصفتها مكونات تأسيسية في بنية الدولة، ولا تتداخل معها، وهي في الدولة من حيث المبدأ عبارة عن بنى اجتماعية موازية مستقلة عن الدولة، لكن كونها تشترك مع الدولة في فضاء بشري اجتماعي مشترك، فالدولة تقنن وجودها ليس بصفتها جماعات وكيانات أو شخصيات جمعية قائمة بحد ذاتها، لأن هذا يهدد قيام أو سلامة شخصية الدولة نفسها بصفتها شخصية جمعية، فشخصية الدولة المستقلة لا تتحقق عندما تنشأ هذه الدولة كدولة جماعات، فتكون شخصية مكونة من عدة شخصيات، فلكي تمتلك الدولة شخصيتها الجمعية الحقيقية، فلا يجب ولا يمكن أن يدخل في تكوينها أية شخصيات جمعية أخرى، والدولة الحقيقية لا يمكنها إلا أن تكون دولة أفراد بحيث تكون هي بما هي دولة الشخصية الجمعية الجامعة لهم، وهذا يعني أن كل الجماعات الأخرى في المشترك السكاني مع الدولة، هي مبدئيا حالة وجود موازي ومنافس للدولة، ولكن لتحقيق حالة من الانسجام مع هذه الجماعات، فالدولة لا تعترف بهذه الجماعات كجماعات على مستوى كل ما يتعلق بما يخصها ذاتيا كدولة، فعلى هذا المستوى – المستوى الذاتي الداخلي للدولة- هذه الجماعات غير موجودة نهائيا كجماعات، لكن الوجود المشترك والتعايش المشترك يجعل الدولة تقنن وجود هذه الجماعات على مستوى خارجي بالنسبة لعالمها الداخلي كدولة، فتعترف بها وتنظمها على أساس أنها مفاعيل الحقوق المعتقدية والانتمائية والتنظيمية لمواطنيها، وتحتويها داخل فضائيها الاجتماعي والجغرافي وليس داخل بنيتها بما يشبه احتواء المنـزل للأثاث.
الدولة الحقيقية الحديثة هي من حيث المبدأ مشترك اجتماعي بين مجموعة من الأفراد المريدين لقيامها بينهم، وهي تقتضي منهم هوية تشاركية واحدة، ويقتضي قيامها أن تكون ذات جمعية واحدة، وهنا يصبح الاتفاق الطوعي على قيام هذه الدولة اعترافا حصريا بهويتها الواحدة وذاتها الواحدة. اللتين لا هوية أخرى ولا ذات أخرى سواهما بتاتا داخل هذه الدولة كمؤسسة، وهذا يجعل رفع لواء هوية أخرى أيا كانت عبارة عن نقض لاتفاق وحدة الهوية المبرم يلغي وجود هذه الهوية، وإقحاما لذات أخرى في كيانها، مما يعني استحالة امتلاكها لذاتها الخاصة، فإن كان عند هذه اللحظة شيء ما يشبه الدولة ظاهريا، فلن يكون عندها إلا كيانا فصاميا مترهلا ومفككك الشخصية، وعندما يقوم سعي ما على أساس هوية فئوية- طائفية أو قومية أو حزبية وما شابه- بغرض فرض قرار سياسي على مستوى الدولة، بدعوى أن هذه الفئة هي أكثرية، فهذا المسعى باطل من حيث المبدأ، فهذه الفئة نفسها بما هي جماعة أو هوية جمعية وجودها نفسه ملغي على مستوى الدولة، وعندما تسعى هذه الفئة للتأسيس على هويتها الخاصة، فهي بذلك تلغي الهوية المشتركة بينها وبين المنتمين إلى فئات أخرى من مستواها وعلى شاكلتها.
من يحاول فرض هويته بالقوة على ذوي هوية مختلفة، فهو مبدئيا قد ألغى الهوية الوطنية التي تجمعه بهم برفعه لراية هويته الخاصة ما دون الوطنية، وارتد أولاً عن هوية الوطن، وما عاد له أي حق بأي مطلب وطني أو التزام وطني على من ألغى وطينته الجامعة معهم، فكيف يلغي أحدهم المشترك الوطني مع آخر ثم يطالبه بالتزام وطني، ويحكم عليه من منطلق وطني، وعلى أرض الواقع بعد إلغاء الهوية الوطنية الجامعة، لا يبقى إلا مسعى فرض الهوية أو الإرادة الفئوية الخاصة على الآخر، وهذا ما هو إلا عدوان عنصري سافر على هذا الآخر، يعطيه بموجب حق الدفاع عن النفس اللجوء إلى أي مصدر حام من مصادر القوة، لا يمكن لأحد أن يتكلم باسم الوطنية، ويطلب مطالب بمقتضاها، وفي نفس الوقت هو نفسه يتصرف فعليا ضدها، والحكم على الآخرين باسم الوطنية يقتضي ممن يفعل ذلك أن يكون هو أولا ملتزم بهذه الوطنية، الدولة الوطنية هي تجسيد الوطن بمعناه السياسي، الذي يجعله واقعا بمعناه الإنساني، وهي بناء على الهوية الوطنية والانتماء الإنساني، اللذين يحطمها التعصب الفئوي والتشرذم الطائفي، أما الحل ، الذي يجب أن يكون حلا جذريا، فهو أن نتخلص من عنصريتنا وحدة انتماءاتنا الفئوية، وبدقة أكبر، من توحش هذه الانتماءات أو قابليتها للتوحش، فنصقلها ونؤَنسنها بحيث لا تعود عائقا يمنعنا من تأسيس وترسيخ هوية إنسانية وطنية تتعالى عليها كلها، وتتخطاها إلى المستوى الذي يمكننا عليه أن نبني وطنا حقيقيا، وعلى من يريد أن يبني وطنا ويكون إنسانا، أن يعي أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك في جلباب فئوي مفتت.