لكل السوريين

جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في الشمال والشمال الشرقي السوري التي يقوم بها الاحتلال التركي وحلفاؤه

بتصرف وإعداد انعام إبراهيم نيوف

إن القانون الدولي الإنساني يحمي المدنيين بشكل مبدئي في الحروب، لكن النتائج تأتي كارثية حين يتم ضرب الاتفاقيات الدولية عرض الحائط وسط تقاعس الأمم المتحدة عن القيام بدورها في تأمين الحماية، وأحيانا تواطؤها، فتكون النتيجة قتلا وتدميرا وحصارا وتجويعاً ونزوحاً وتهجيراً قسرياً، وصولا إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي، إنها جرائم حرب متمادية تسجل لكن أخطر فصولها ما تشهده سوريا اليوم مع عملية التغيير السكاني في مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري.

إن استراتيجية المحتل التركي وحلفائه من ميليشيات المعارضة المسلحة السورية, كان هدفها تفريغ المناطق الشمالية والشمالية الشرقية السورية, عبر تهجير قسري للسكان الذي اتخذ بعدا اثنياً وقومياً, وهو ما حققه المحتل التركي وحلفائه بداية ليتوسع في سياسة تطهير المناطق من خلال خطة مدروسة وممنهجة, وهي جرائم حرب موصوفة وفق القانون الدولي الإنساني، ذلك أن التهجير هنا لم يحصل نتيجة النزوح الاضطراري أو الإرادي للسكان ، بل هو نتاج دفعهم إلى الرحيل والفرار عبر استخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد وحرمانهم من المياه والكهرباء , التي قامت بها قوات نظامية تركية وقوى فصائلية مسلحة, حيث ان القانون الدولي يعرف التهجير القسري بأنه: ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء مدن وقرى وأراض معينة وإحلال مجموعات سكانية أخرى بدلا عنها, مختلفة عرقيا أو مذهبيا أو طائفيا ، ليصار إلى تغيير سكاني- ديمغرافي، وهو إخلاء قسري وغير قانوني ويرقى إلى جريمة حرب، حسب نظام روما الأساسي.

الاستراتيجية العدوانية للمحتل التركي وحلفاؤه، تمثلت في الحصار العسكري المطبق ومعه الحصار الإنساني والقصف المستمر للمستوصفات والمستشفيات والأماكن الاثرية وسرقتها والأماكن السياحية والأسواق والافران وقطع الأشجار المثمرة وسرقة اخشابها ومحصولها، وإطلاق الطائرات المسيرة وعمليات الاغتيالات والاخفاء القسرية والتفجيرات الإرهابية المصطنعة، بغية دفع السكان الاصلين الباقيين، إلى اليأس فإما الفرار والهروب واما البقاء والخضوع والاستسلام لشروط المحتل واعوانه, المذلة والمهينة , وبذلك تصبح عملية البقاء ليست عملية استسلام بل عملية انتحار جماعي , رغم ان إخضاع السكان الأصليين للحصار والإرهاب واستسلامهم هو بالضرورة: إبادة جماعية وتهجير قسري يرقى إلى مستوى جرائم حرب, ومهما تعددت الصيغ والعبارات، يبقى التهجير المتبع من المحتل التركي وحلفاؤه هو تهجير قسري.

ورغم كل تلك الضغوط والإرهاب على مدى سنوات، لم يفلح المحتل التركي وحلفاؤه في تحقيق تلك السيطرة، ويشار إلى أن موقف السيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس اعتبر: فيه أن التهجير القسري للسكان الأصليين قد يرقى ليكون جريمة حرب,  لكن هذا الموقف، إذا ما اقترن بتحرك فاعل من مجلس الأمن لن يشكل رادعا للأطراف المعنية المحلية والإقليمية والدولية المتدخلة والمتورطة بالأزمة السورية, ولن يمنع استبدال السكان الأصليين باخرين مختلفين ,وإنجاز العملية المرجوة للمحتل وحلفاؤهم ,بإنجاز قصة التغيير الديمغرافي, حتى لو عبروا الى ذلك, بالتطهير العرقي.

تباطأت هيئة الأمم المتحدة وماطلت معظم دول العالم وتواطأت عبر التزامها الغياب الكلي لأي موقف إزاء الاعتداءات التركية وعدوانها المستمر على الأراضي السورية منذ عام 2011 وحتى الان ،والتجاهل التام, لقد وقفت  معظم حكومات العالم صامتة ودون اكتراث يذكر,  حيال ما قام به جيش الاحتلال التركي بالتعاون مع مسلحين سوريين ينتمون الى فصائل معارضة، وبتواطؤ مريب من معظم الدوائر السياسية الدولية واصل العدوان التركي  كل عمليات اعتداءاته على الأراضي السورية مستخدمين أحدث صنوف الأسلحة البرية والجوية والطائرات المسيرة, وفي خروقات فاضحة لكل المبادئ والقواعد التي تحكم القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان ، وتم افساح الطريق أمام الحكومة التركية لاستخدام كل اساليب العنف والعدوان ضد قوى مجتمعية حاربت الإرهاب وممثليه من داعش وغيرها.

ففي مدن الحسكة وريفها والقامشلي وريفها والدرباسية وديرك وعفرين ومحيطها وكوباني ومحيطها ومنبج وتل رفعت واعزاز وقراهم وعين عيسى وريفها, فان نفس القوى المجتمعية التي حاربت قوى الإرهاب وتنظيماته، هي التي قاومت وتصدت للعدوان التركي والمسلحين الذين يقاتلون معه, الذين قاموا بارتكاب العديد من الانتهاكات الفردية والجماعية بحق أهلنا من المواطنين السوريين في الشمال والشمال الشرقي، علاوة على الحجم الهائل من التخريب والدمار وسقوط المئات من الضحايا المدنيين وغير المدنيين بين قتيل وجريح، جروحهم متفاوتة الشدة , والتهجير للآلاف من السكان الأصليين , إضافة الى العديد من المجازر التي تتسم بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي وترتقي الى مصاف الجرائم الجنائية الدولية .

إن الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية تلزم الأطراف بتطبيق بنود هذه الاتفاقيات، غير أن لجنة القانون الدولي أكدت أن قواعد أو بعض قواعد اتفاقية ما تصبح ملزمة مباشرة للدول غير الأطراف لسبب بسيط وهو أنها تدون قواعد عرفية سابقة، فالدول غير الأطراف لا تلتزم بالاتفاقية نفسها بل بقواعد القانون الدولي العرفي التي تكرسها الاتفاقية؛ كما أكدت محكمة “نورمنبرغ” ان شرط “مارتنز” يبقى مطبقا. وتم  اعتبار أن هذا الشرط يظل نافذا بصرف النظر عن المشاركة في المعاهدات التي تحتوي عليه، أي ان مبادئ قانون الأمم تطبق في أي نزاع مسلح، وينص شرط “مارتنز” على أن يظل المدنيون والمقاتلون، في الحالات غير المنصوص عليها في الاتفاقيات، تحت حماية وسلطات مبادئ قانون الشعوب، المنبثقة عن التقاليد والمبادئ الانسانية وما يمليه الضمير العام، ما يعني إن القانون الدولي الانساني يعتبر أن الدولة الموقعة أو غير الموقعة على الاتفاقيات الدولية ذات الطابع الانساني ملزمة باحترام قواعد القانون الدولي العرفي التي تتضمنها. وهي تتحمل مسؤولية عدم الالتزام، ولكن من المفترض أن تصادق كل الدول على الاتفاقيات المتعلقة بالقانون الدولي الانساني للخروج من دائرة الشك ومن اجل البشرية جمعاء. كما انه على حركات التحرر الوطني التي تقاوم الاستعمار والاحتلال والتمييز العنصري ان تلتزم قواعد القانون الدولي الانساني كي لا يتحول نضالها المسلح إلى أعمال إرهابية.

وبعد ان تم التحول في مكافحة الارهاب، من الاجراءات الامنية التي تتخذها الدول في اطار التزامها بالاتفاقات الدولية بشأن مكافحة الارهاب، إلى حرب تشن على الدول المتهمة بالإرهاب ، اصبح من الواجب التقيّد بالقواعد التي ينص عليها القانون الدولي الانساني بشكل صارم، كي لا تتحول الاعمال العسكرية ضد الارهابيين الى أعمال ارهابية، وكي لا يدخل العالم في دوامة الارهاب والارهاب المضاد.

أن هذه الانتهاكات المحددة بالانتهاكات الجسيمة لا تشمل جميع الانتهاكات، وهذا يعني أن هناك انتهاكات قد ترتكب بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام، وقانون حقوق الإنسان، كقطع الكهرباء والمياه والاعتداء على محطات التوليد والأماكن ذات الطابع الديني كالمقابر، وعلى أماكن العبادة، والأماكن الثقافية والمستشفيات  والمباني العامة والممتلكات الخاصة على سبيل المثال،  كما جري في مناطق الشمال والشمال الشرقي لسورية , ولذلك يجب أن لا نغفل تلك الانتهاكات التي تنضوي تحت مبادئ وأحكام قانون حقوق الإنسان والقوانين الأخرى الى جانب ما ترتكبه قوات الاحتلال التركية من انتهاكات بموجب القانون الدولي الإنساني.

تؤكد الصكوك والاتفاقيات القانونية الدولية ان جريمة التطهير العرقي هي عملية الطرد بالقوة لسكان غير مرغوب فيهم من إقليم معين على خلفية تمييز ديني أو عرقي أو سياسي أو استراتيجي أو لاعتبارات ايدولوجية أو مزيج من الخلفيات المذكورة. وهي محاولة خلق حيز جغرافي متجانس عرقيا او دينيا، في المنطقة المقصودة، بإخلائه من مجموعة معينة. ويتم تنفيذ ذلك باستخدام القوة المسلحة، والتخويف او من خلال الاعتقالات، الاغتيالات، والأكثر وضوحا هو عمليات الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يراد له أن يسود. والهدف النهائي من ذلك هو السيطرة على مناطق تقطنها المجموعة التي يجري تهجيرها او تجعلها غير قابلة للسكن من قبلها مرة اخرى. وقد تكون عمليات التطهير العرقي، وفي حالات عدة، مترافقة مع مجازر ترتكب ضد الجهة المستهدفة، مع تعد واضح على ممتلكاتها وخصوصياتها. وكل ما تقدم، هو ما يحصل تحديدا، وبانتظام، في الشمال والشمال الشرقي من سوريا.

التطهير العرقي والقانون الدولي

التطهير العرقي في حقيقته وبطبيعته مرتبط بارتكاب مجموعة من الجرائم، كجريمة التمييز العنصري، وجريمة الفصل العنصري (الأبارتايد)، وجرائم الحرب بما في ذلك هدم المنازل، واستيلاء على الأرض، والاعتداء على ألاماكن المقدسة، والقضاء على مقومات العيش من قطع الكهرباء والمياه، وتهجير الأهالي، أو إقصاءهم وحرمانهم من العودة إلى وطنهم وبلدهم وممتلكاتهم بهدف تفريغها من عرق معين، وجرائم الإبادة الجماعية،  وبالتالي تشكل جريمة التطهير العرقي جريمة مركبة من مجموع الجرائم التي ترتكب بهدف الوصول إلى التطهير العرقي الذي يشكل في النهاية جريمة ضد الإنسانية.

وجريمة التطهير العرقي، هي جريمة ضد الإنسانية ومن الأفعال المحظورة والمحددة في نظام المحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 (نظام روما) عندما ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق، ممنهج وموجه ضد مجموعة (محددة) من السكان المدنيين. والجرائم ضد الإنسانية عرضة للعقاب في الحرب أو السلام، أي بصرف النظر عن وقت ارتكابها، والمهم أيضا أنها تخضع للعقاب بغض النظر عن مكان ارتكابها، وتقع مهمة العقاب عليها على كل الأجهزة المختصة في الدولة اعتبارا من أعلى السلطة الى الوحدات الموجودة في الميدان وبعكسه فأن كل هؤلاء يمكن ادانتهم في المحاكم الدولية المختصة أو في محاكم الدول التي تعاقب على ارتكاب هذه الجريمة بغض النظر عن جنسية مرتكبيها (وهو ما يقع ضمن مفهوم الولاية القضائية الدولية).

ولأهمية الالتزام المفروض على المجتمع الدولي في التصدي لمثل هذه الجرائم فان ديباجة النظام الدولي تنص على عبارات واضحة مثل: “وإذ تؤكد أن أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب ألا تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني، وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي”. وتضيف أنها “وقد عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب وعلى الإسهام بالتالي في منع هذه الجرائم.”

ثم تؤكد “بأن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية” والأمرهنا لا يتعلق بان الدولة عضو في نظام روما تحديدا بل ان التصدي لهذه الجريمة، وما بمستواها من جرائم، والمعاقبة عليها، أضحى التزاما دوليا ثابتا على كل الدول حيث تطبق ذلك في محاكمها الوطنية ضمن مفهوم الولاية القضائية الدولية.

مرتكبو جريمة التطهير العرقي

في هذه الجرائم الخطيرة والمعقدة، والمتداخلة المراحل، قد يكون من يرتكب هذا النوع من الجرائم أجهزة ترتبط فيما بينها برابط هيكلي، وقد تكون عمليات التنفيذ تجري من خلال أفراد محددين تابعين لها يتم اختيارهم بدقة للتنصل من الفعل فيما بعد والقول أنها عمل مجموعة إجرامية أو عمل فردي، ولذلك غالبا ما ترتكب هذه الأفعال ضمن تعليماتٍ يصدرها القائمون على مجريات السلطة في الدولة أو الجماعة المسيطرة، ولكن ينفذها الأفراد في محاولة لتنصل المسؤولين الرئيسيين منها والافلات من العقاب، إن هذا الشكل الممنهج الذي تنفذ فيه وضمن خطة للاضطهاد والتمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد ضد الطرف الآخر، وقد تشترك عدة أطراف، أو مجاميع، ويتولى كل طرفٍ منها القيام بجانب معين من فصول الجريمة أو قد يكون التخطيط، الرصد، جمع وتوريد وتوزيع الأسلحة، التدريب، الخطب الدينية والتجييش الطائفي، التهديد، الاعتقال، والاغتيالات، والتنفيذ بالنقل القسري، وتتشارك وتتشابك الحلقات والأفعال لاقتراف هذه الجرائم وقد تكون بطريقة غير مفهومة الملامح لغير المتابع التفصيلي لها فتختلط الرؤى والأسباب ويضيع هنا القصد الجنائي الواضح، وهو الخيط الذي يربط عمل كل المشتركين وينقل الجريمة إلى مصافي الجرائم الدولية الخطيرة جدا.