لكل السوريين

“الجامع النوري” تحفة أثرية تحاكي تداخل حضارتين

حمص/ بسام الحمد

في قلب حمص السورية وسط الأسواق القديمة، يقع الجامع النوري الكبير، الذي يُعتبر أحد أهم المعالم الإسلامية وأقدمها في هذه المدينة، كما يُعد إلى جانب الجامع الأموي بدمشق من أقدم أماكن العبادة في سوريا.

يتميز الجامع ببنائه الضخم، وأهميته الأثرية، وشكله الجميل ونمطه الإسلامي وهندسته الفريدة التي تجمع بين خصائص العمارة اليونانية الرومانية والإسلامية، وكالعادة في نمط بناء المدن الإسلامية احتل الجامع النوري قلب المدينة وقامت حوله الأسواق القديمة، وخاصة السوق النوري المحاذي لمدخل الجامع الجنوبي، وسوق الحسبة والقيسارية وبعض الحمامات الأثرية كالحمام العثماني والحمام الصغير.

يعتبر جامع النوري أو كما يطلق عليه أيضاً الجامع الكبير، أحد معالم حمص الشهيرة بسبب تاريخه القديم جداً، إذ يعود تاريخ بنائه إلى ما قبل الميلاد، وتحديداً إلى زمن عائلة “آل شمسيغرام” عندما كانت المدينة تعبد إله الشمس “إيل جبل”.

عند دخول الإمبراطورية البيزنطية إلى مدينة حمص، تمّ تحويل المعبد إلى كنيسة خُصصت للقديس “يوحنا المعمدان” وتحديداً في عهد آخر الإمبراطور “ثيودوسيوس الأول” الذي كان آخر إمبراطور للإمبراطورية الرومانية الموحدة.

وفي القرن الـ7 الميلادي، بعد الفتح الإسلامي بقيادة الصحابي أبي عبيدة بن الجراح لمدينة حمص ودخول مُعظم سكانها دين الإسلام، تمّ تحويل الكنيسة إلى مسجد.

حوَّل المسلمون نصفه إبان الفتح العربي الإسلامي إلى جامع، وبقي النصف الآخر كنيسة للمسيحيين، ولكن الخليفة المتوكل العباسي أمر بتأديب النصارى العرب الذين ثاروا مع مواطنيهم المسلمين العرب على القائد العباسي، فصلب رؤساءهم، وأدخل القسم الثاني من البيعة إلى الجامع، كما يقول الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك تحقيق أبو الفضل ابراهيم، القاهرة ط2/ 1962.

وعندما تولى (نور الدين زنكي) ولاية حمص اهتم بهذه المدينة اهتماماً يوازي ما لهذه المدينة من مكانة استراتيجية وعسكرية ومعمارية، ومن بين العمائر التي اهتم بها جامع حمص الكبير الذي سُمي منذ ذلك الوقت الجامع النوري الكبير نسبة إليه.

في حين تقول راوية ثانية إنّ الكنيسة كانت مندثرة عندما قرر المسلمون بناء مسجد مكانها، أما خلال فترة الخلافة الأموية فقام الأمويون بتجديد جامع النوري ليتناسب مع طراز البناء الأموي، وفي عام 1160 ميلادياً، تعرض الجامع لأضرار كبيرة جداً، بسبب زلزال كبير ضرب بلاد الشام.

وكان جامع النوري الكبير من بين الأماكن الأثرية التي اهتم بها، فقام نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ولاية حمص، بترميمه وإصلاح ما خرب الزلزال منه؛ وهو ما دفع الناس إلى إطلاق اسم “جامع النوري” عليه نسبة إلى نور الدين زنكي.

يقع جامع النوري الكبير وسط مدينة حمص القديمة، في شارع أطلق عليه اسم المسجد ذاته، فيما يحيط به العديد من المواقع التاريخية والدينية والثقافية مثل سور حمص القديمة، وأسواق الحسبة والمسقوف والعتيق وشارع الحميدية وجامع بالزرباشي، إضافة إلى العديد من حمامات الأسواق العثمانية.

أما مساحة المسجد فتبلغ قرابة 5 آلاف متر، وحرمه يتسع لنحو 7 آلاف شخص، ويبلغ ارتفاع سقفه نحو 7 أمتار.

فيما يحتل المصلى الخارجي للجامع نصف مساحة الصحن وهو قسمٌ خاص للصلاة في فصل الصيف، ويتميز هذا القسم بجزئه الشمالي المسقوف الذي تمت تغطيته برواقات بعقود متصالبة، في نهايته قناطر تحمي المصلين من أشعة الشمس، كما يتميز بمئذنته المربعة الضخمة والمبنية من الحجر البازلتي الأسود.

للجامع ثلاثة أبواب أحدها من الخشب، وله شكل هندسي جميل، وهو يوصل إلى الحرم من الناحية الغربية، وهناك باب من ذات الجهة ويصل إلى ساحة الجامع (الصحن) وهو من الحجارة البيضاء والسوداء على النمط الأبلق، وفي الجهة الجنوبية هناك مدخل طويل-تعلوه أقواس- يصل إلى الحرم مباشرة، وبالإضافة إلى هذه الأبواب هناك باب فرعي من الناحية الشمالية يُفضي إلى سوق صغير تعرض دكاكينها مصاحف مختلفة الأحجام ومسابح وأشرطة دينية وقطعاً شرقية وغيرها.

ويبدو الجامع برمَّته مبنياً من الحجر والكلس والتراب بشكل أقواس متقاطعة تستند إلى دعائم، ويحيط بالجامع من الجهة الغربية البناء الإسمنتي الحديث، الذي يشكل واجهة الجامع، وهو من الحجر الأبيض، وقد بُني على النمط العربي الإسلامي.

ويتضمن الجامع أبنية ملحقة به من الغرب، تضم أماكن للإفتاء وجمعية إصلاح ذات البين، وفي الجهة الشرقية تقع المكتبة الضخمة الغنية بذخائر الكتب والمخطوطات، مع قاعة المحاضرات التي أُنشئت عام 1990، ويُعتقد أن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه عمّ البطل صلاح الدين الأيوبي كان قد أنشأ في مكانها ما عُرف بـ (المدرسة النورية) في عام 627 هـ.

كان الجامع النوري الكبير عبر العصور، ولا يزال منارة علمية ودينية تهوي إليها الأفئدة من مختلف البلدان، وفي مطلع القرن الماضي أخذ هذا الجامع دوراً يشابه الدور الذي أخذه الأزهر الشريف والنجف الأشرف والزيتونة في تونس والقرويين في فاس في تمثيل الوجه الناصع لمثالية الإسلام، والتعبير بحق عن أهدافه العلمية، إلى جانب الأهداف الدينية والروحية، في قبسات نورانية مشعة من الروح والعقيدة والإيمان، ففي صحن الجامع الواسع، ومصلاه الخارجي الفسيح، وغرفه المتعددة هنا وهناك، كانت تجتمع أفواج من الطلبة على مر السنين للدراسة والاسترواح في الجامع.