لكل السوريين

اللامركزية السياسية التي يروج لها في سوريا

  إعداد وبتصرف انعام إبراهيم نيوف

إن الدعوات التي يروج لها منذ سنوات حول شكل الحكم القادم في سوريا فكأننا أمام دولة وليدة تشكلت حديثاً، ونبحث لها عن شكل حكم يلائمها، ولم تكن هي دولة قائمة منذ ما يقارب الثمانين عاماً.

لابد لأي نظام سياسي في بلد ما من العالم أن يتبنى شكلا من الحكم ينسجم وطبيعة ذلك البلد ومجتمعه وتاريخه وقيمه وتطلعاته حتى يحقق القبول والرضا من عموم الشعب، ويحظى بالشرعية والاندماج والاستمرار، لأنه يستمد قوّته من القوى الاجتماعية والسياسية الحاضنة له، وإلا فإنه سيعاني أزمة سياسية واجتماعية يصعب معالجتها والعودة إلى مرحلة ما قبل الفشل.

لهذا لا يجوز أن نستورد لبوس تجربة في بلد مختلف في طبيعته التاريخية والاجتماعية والعقائدية والجغرافية، ونلبسه مختلفا في الشكل والمضمون، لأن الفارق كبير بين مفهومات تلك الشعوب وشعوب منطقتنا وانتماءاتها.

ومن الأشكال المقترحة اللامركزية السياسية، هذا المصطلح نظام سياسي وقانوني وإداري والدستور الذي ينظّم الحياة السياسية والقانونية والإدارية في البلد الذي يتغير أيضا، فاللامركزية السياسية تؤثر في شكل الحكم في الدولة، فتتحول من دولة موحدة إلى دولة اتحادية فدرالية وذلك وفق مقتضيات المجال السياسي الذي يمنحه هذا الشكل من الحكم لكل منطقة أو إقليم.

فنظام اللامركزية السياسية يقتضي توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بين الحكومة المركزية والمحلية، فإلى جانب السلطات الثلاث الأساسية للدولة الفدرالية نجد سلطات مماثلة لها في كل إقليم، وإلى جانب الدستور الفدرالي هناك دستور خاص بكل إقليم هذا ما يعني وجود ازدواجية في النظام السياسي الذي يمارس سيادته الداخلية، فسلطات الدولة الاتحادية تمارس السيادة المستندة إليها من شعب الاتحاد وسلطات الأقاليم تمارس السيادة من خلال شعب الإقليم، لذلك فكما هناك تخوفات من سلطة المركز فكذلك هناك تخوفات أولى من التجزئة التي تخلقها اللامركزيّة السياسية.

ولا بد لنا من الإشارة الى الدولة البسيطة أو ما يعرف بالدولة الموحدة، والتي تقوم على وحدة الشعب والإقليم والسلطة والسياسة، لذلك يكون لهذه الدولة بسبب تجانسها ووحدتها شعبا وأرضا نظام سياسي وطني موحد، أي سلطة سياسية واحدة في المستويات الثلاثة -التشريعية والقضائية والتنفيذية- ويتخوف في هذه الدولة من تجزئة السلطة السياسية للاحتمال الكبير الذي يتسبب في تفتيت الدولة والمجتمع.

أما الدولة المركبة، أي الدولة كبيرة الحجم ذات القوميات والديانات المتعددة التي تتكوّن من دويلات عدة أو ولايات وأقاليم، وهنا تتوزع السلطة السياسية فيها بين الحكومة الاتحادية والولايات، وذلك بسبب التنوع وعدم التجانس العرقي واللغوي والديني والثقافي، ولذلك يطلق على هذا النظام السياسي ما يعرف بالنّظام الفدرالي لهذا فاللامركزية السياسية لا توجد إلا في الدول المركّبة من دون البسيطة الموحدة.

إن هناك تجارب كثيرة لهذا الشكل من الحكم في دول العالم، وهناك نسبة أربعين في المئة من دول العالم ذات شكل الحكم الفدرالي، ولكن أغلب هذه الدول كانت مجزأة في الأصل دويلات أو دويلاات وأقاليم مستقلة، ثم جمعت وفق هذا النظام السياسي، فهي دول مركبة في الحقيقة.

أما سورية، بناء على ما أوردنا، فلا أحد يجادل في أنها دولة بسيطة بمعنى أنها دولة واحدة موحدة ومتجانسة أرضا وشعبا، فهي تفتقد إلى أي من مقومات الفدرالية (ديمغرافية وجغرافية)، ومن ثم لا تنسجم مع شكل الحكم هذا فضلا عن أنها دولة موحدة لا يعقل أن نقوم بتفكيكها ومن ثم نعيد تجميعها من جديد بهذا الشكل بغطاء فدرالي، وعلى أسس قومية وطائفية، مع العلم أن جميع المناطق متداخلة وموزعة في كافة المدن والأحياء فالتسميات الطائفية والاثنية والقومية غير صحيحة بوصفها توزيعا ديمغرافياً.

وإن أي محاولة قسر الواقع السوري، وتطبيق نظام اللامركزية السياسية عليه، وتقسيم السلطة السياسية الواحدة إلى سلطات عدة في مستوى المحافظات والمناطق والنواحي، ما هي إلا عملية تمزيق لمفهوم المواطنة الواحدة، وتجزئتها إلى مناطقية وإثنية وعرقية، وهذا ما ينتج أزمة هوية أي تكريس الشعور بالهوية المناطقية والطائفية والعرقية وغلبة هذا الشعور على الهوية الوطنية الجامعة، ومن ثم ستفتت البنية الاجتماعية، وتخلق حالا من التناحر والصراع المناطقي والطائفي والعرقي.

أما نظام اللامركزية الإدارية: فهذا هو الذي يمكن أن يطبق في الدولة الموحدة البسيطة كسورية، إذ توزع الوظائف الإدارية في الدولة بين السلطة المركزية في العاصمة وهيئات مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية في المحافظات والمدن والبلدان والبلديات ومؤسسات هيئات عامة تتمتع بحرية القرار في ما يخوله لها القانون، وذلك بإشراف السلطة المركزية التي تمارس دور الرقابة الإدارية على هذه الهيئات، وبذلك فإن ذلك لا يمس وحدة السلطة السياسية التي هي مظهر من مظاهر الدولة الموحدة  مع توسيع الصلاحيات التنفيذية لهذه المؤسسات والهيئات الإدارية المحلية.

ومن ثم شكل الحكم هو خيار شعبي عام لا يمكن أن يحدد في خضم الموت والدمار والتهجير ووفق هذه التجاذبات، وإنما يستوجب مرحلة انتقالية تتجاوز محنة الفوضى والاستقواء بالسلاح، فكيف باللامركزية السياسية التي تستوجب بالضرورة الاستقرار السياسي، ولو بأضعف حالاته، هذا في حال إمكان تطبيقها.

نحن بحاجة إلى تعزيز التماسك الاجتماعي والتقريب بين الهويات والانتماءات ووضعها في إطار وطني عام، مع عدم التفريط بحقوق ومصالح أي مجموعة إثنية أو عرقية لحساب الأغلبية، وأن يقوم الدستور على أساس المواطنة، ولا توضع فيه أي محاصصة أو قضايا طائفية أو عرقية فالوطن للجميع، ويجب أن يستوعب الجميع، ومشكلتنا ليست في المركزية السياسية وطبيعة الدستور، وإنما في التطبيق، وتطلعات أي شعب هي المشاركة السياسية وتداول السلطة وحفظ الحقوق والحريات العامة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، لا تمزيق الوطن.