لكل السوريين

حول اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية -1- حول القانون 107

إعداد وبتصرف انعام إبراهيم نيوف

تنوعت مطالب السوريين حيال رؤيتهم لسورية المستقبل واختلفت بحسب الانتماءات السياسية والقومية والمذهبية، فبعضهم أراد دولة علمانية والآخر إسلامية والثالث مواطنة، والبعض انحاز  إلى اللامركزية السياسية او اللامركزية الادارية، وهناك كثير من الوثائق السياسية المتماثلة في المضمون والمتخالفة في الشكل، هذه الشعارات استخدمت لنشر الخلافات بين السوريين، وتجنب البحث عن المشتركات والعمل على بلورتها في رؤية وطنية سورية جامعة، ان مسألة الحقوق سواء كانت قومية أم إثنية أم دينية فهي الجسر الذي ينقل الفرد أو الجماعة من ضفة العداء للدولة إلى ضفة الاندماج مع الدولة، وحل هذه المعضلة يعزز الشعور بأنه جزء من المشروع الوطني السوري.

كيفية التخلص من الثقافة المجتمعية السائدة والانتقال بالمجتمع إلى ثقافة المشاركة وقبول الآخر عن وعي وثقافة والتزام كامل بالأنظمة والقوانين.

انتشرت خلال الفترة الماضية العديد من الاطروحات السياسية والثقافية حول شعار اللامركزية وبنوعيها السياسي والإداري، مما يسمح لنا ان ندلي بدلونا حول ذلك، وبداية لابد لنا من الإشارة السريعة الى قانون الإدارة المحلية، الذي طرح عام 1971ومنذ ذلك التاريخ تطورت الهيكلية الإدارية والتشريعية للإدارة المحلية في سورية وصولا إلى القانون 107. ولكن العمق العام لم يتغير عبر هدف أساسي في تطبيق لامركزية إدارية تسهل المصالح المرتبطة بالأحياء والقرى والبلدات، وتشكل نموذجاً معاصراً لإدارة المناطق مع مراعاة مركزية العديد من القرارات. وفي المقابل فإن البعد الآخر للقانون كان يتضمن ثلاثة أمور أساسية:

إيجاد هيكلية إدارية مختلفة في مهامها عن حزب البعث الذي كان قائداً للدولة والمجتمع، لكنها تتبع قراراته السياسية وتؤمن لمؤسسات الدولة تنفيذ قراراتها على المستوى الأدنى، وعلى الأخص في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى.

ضبط مركزية الدولة بما يضمن معرفة السلطة السياسية تحديداً بكافة التفاصيل عبر الوحدات الإدارية الأصغر، التي تعمل باتجاهين: الأول مع الوحدة الحزبية الموجودة في منطقتها، والثاني مع مصالح المجتمع المحلي الخدمية.

تنظيم العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمعات المحلية بعيداً عن الهيكلية الخاصة بحزب البعث. فأعضاء المجالس المحلية كانوا على امتداد عقود من البعثيين، ولكنهم في نفس الوقت يشكلون جهازاً مستقلاً على المستوى الإداري.

النظرة العامة التي يحملها السوريون لمجالس الإدارة المحلية أنها جزء من جهاز السلطة، فهي كانت متشابكة بقوة مع المؤسسات الأكثر قوة داخل المجتمع المحلي، مثل رئيس الفرقة الحزبية مثلا أو حتى المؤسسات الأمنية. ورغم أن “الإدارة المحلية” قدمت كتشريع شكلا متقدما للدولة المعاصرة، واستطاعت خلال العقود الماضية تلبية مصالح متعددة داخل المجتمع، إلا أنها ظهرت أيضاً كصورة أخرى لمركزية الدولة وتعاملها مع كل التفاصيل الخاصة بالمواطن. فقانون الإدارة المحلية في ظل دستور يضمن لحزب البعث قيادة الدول والمجتمع أصبح تشريعا يحد من المشاركة العامة، ويحتكر “النشاط الأهلي” ويتماهى في النهاية مع مبدأ الطيف الحزبي التقليدي المنصوص عليه في ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية.

عمليا كانت الوحدات الإدارية في المدن والبلدات والقرى شكلا أصغر للتشكيل السياسي العام الموجود في الجبهة الوطنية التقدمية. ففي المدن الكبرى، كان هناك ممثلون عن الأحزاب داخل مجالس المحافظات، وفق توازن يضمن لحزب البعث الحصة الأكبر، بينما يتفرد البعث بكامل مقاعد المجالس في البلدات والقرى الأبعد وعلى الأخص في الشرق السوري. فالإدارة المحلية شكلت “احتواء” للمجتمع المحلي ونظمت العلاقة مع “المركز” دون أن تخدم فكرة “اللامركزية الإدارية”. والمتغير الأساسي في القانون 107 هو التبدل الحاصل في الدستور السوري الذي ألغى احتكار السلطة بعد تبديله نص المادة الثامنة من الدستور.

وسع القانون 107 القاعدة الانتخابية، وبدّل من التقسيم الإداري بما يخدم هذه القاعدة، وسهّل كثيراً من الاجراءات الإدارية عبر منح صلاحيات إضافية للمجالس المنتخبة.

وفي نفس الوقت أتاح الدخول في شراكة مع القطاعات الأخرى الموجودة في حدود صلاحية كل مجلس، سواء كانت اقتصادية أو مدنية

. وجرت الانتخابات في نهاية 2011 دون وجود القوائم الاعتيادية التي توزّع مرشحي الجبهة الوطنية التقدمية. ولكن هذه الانتخابات جرت في ظل حالة الاضطراب التي بدأت تجتاح سورية مطلع عام 2011، ووسط عدم قدرة المجتمع على تلمس التحولات داخل قانون الإدارة المحلية.

فكان على هذا القانون الانتظار عامين تقريبا قبل أن يُعاد طرحه من جديد داخل المحافل الدولية، مع إمكانية تطبيقه في مناطق سيطرة المسلحين، بحيث يتم تحويل القوة المسلحة إلى “قوة أمر واقع” إدارية، وفي المقابل تعود مؤسسات الدولة للعمل من جديد. ومنذ عام 2014 أصبحت المنظمات الدولية غير الحكومية مهتمة بهذا القانون، وبتطوير كوادر المجتمع المدني السوري للتعامل معه من جديد.

عارض حزب البعث القانون 107 منذ مراحل إعداده الأولى، لأنه يتيح لمنظمات المجتمع المدني الدخول في شراكة مع كافة البلديات.

ولكن صدور القانون لم يحسم الكثير على مستوى الشأن العام السوري، لأن الأزمة جعلته شكلاً من أشكال التعامل مع الأمر الواقع بدلا من أن يكون بيئة لتطور العمل باتجاه الديموقراطية. والمحاولات التي تجري لإبرازه اليوم هي نتيجة لمأزق الحلول السياسية، فتطبيقه سيكرس ـ في ظل ضعف الدولة ـ “التقسيم” على المستوى الإداري تماما.

كان امتحان الإدارة المحلية للمناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة السورية بمثابة الاستحقاق الأهم الذي واجهته المجتمعات المحلية في هذه المناطق ، من حيث إعادة إنتاج دور الدولة في هذه المناطق وفق رؤية جديدة غير منضبطة وغير واضحة وارتجالية، وما يتطلبه ذلك من تعزيز مشاركة المجتمع في إدارة مصالحه ومساءلة الجهات التنفيذية  والتقريرية (أو التشريعية فيما يتعلق باتخاذ القرار والمساءلة)على المستوى المحلي والرقابة على أدائها بما يضمن تحقيق سلطة المجتمع ككل وكسر تغوّل المنظومات العسكرية على المجتمع، وصولاً إلى تعزيز سلطة المجتمع بدءاً من المستويات المحلية ومروراً بتعزيز المشاركة الشعبية على مستوى القرار الوطني وفي استحقاقات رسم خارطة المستقبل.

ورغم كل القصور الذي شاب أداء الكثير من المجالس المحلية نتيجة لأسباب موضوعية أو نتيجة لأسباب ذاتية مرتبطة ببنية هذه المجالس وآليات عملها، فإن قدرة المجالس المحلية على الارتقاء بأدائها وإثبات دورها في مجتمعاتها، كان قاصرا بغياب مأسسة هذه المجالس وحيازتها لأدوات الإدارة والخدمة وتعزيز الموارد ورفدها ذاتيا، حيث تزايد اعتماد المجالس المحلية لآليات مؤسسية معيارية كاعتماد آليات الشكاوى والجباية المحلية إضافة إلى إدارة فعاليات التنمية المحلية وغير ذلك. تزايد فعالية إعادة إنتاج المنظومات العسكرية الحاكمة (حيث تتدرج العلاقة مع البنى العسكرية من الصدام أو التنافس إلى النأي بالنفس إلى التفاهم وتقاسم الأدوار)، والعودة إلى دائرة تهميش السكان من خلال عدم استثمار المستوى التمثيلي الذي يميز المجالس المحلية وحضورها في تقديم الخدمات وإدارتها، في التفاعلات السياسية عبر الدفع السياسي، فأغلبية المجالس دورها سياسي وخدمي في ذات الوقت. ويعود ذلك إلى أن أغلب المجالس المحلية كانت إفرازا طبيعيا لحالة البنى السياسية التي وجدت نفسها في مواجهة أسئلة المجتمع المحلي فيما يتعلق بإدارة مصالحه وتقديم الخدمات له فتحولت صوب عمل المجالس المحلية بما يحمله من أبعاد خدمية إدارية ونحو العمل السياسي، مدفوعةً برؤيتها السياسية كقوى طالبت منذ البداية بالتغيير السياسي، فيما آثرت مجالس أخرى الاكتفاء بالأدوار الخدمية التي تميز مهام المجالس المحلية في حالات الاستقرار.

يتبع..