لكل السوريين

دعا إلى استقلال أوروبا الاستراتيجي.. وتقرير القارة لمصيرها هل يعيد ماكرون ما فعله ديغول

تحقيق/ محمد الصالح

خلال زيارته إلى الصين، دعا الرئيس الفرنسي الأوروبيين إلى تطوير موقف مستقل عن الولايات المتحدة في تعاملها مع التوترات بين بكين وتايوان.

وحذر ماكرون من أن أوروبا تواجه خطر “الوقوع في أزمات ليست لها، ما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية”.

وقال في مقابلة صحفية “أسوأ شيء هو الاعتقاد بأننا نحن الأوروبيين، يجب أن نصبح أتباعاً حول هذا الموضوع، وأن نأخذ إشارتنا من أجندة الولايات المتحدة، ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”.

وقال في المقابلة “نحن الأوروبيين، يجب أن نستيقظ، أولويتنا لا يجب أن تكون جداول أعمال الآخرين في جميع مناطق العالم”، وشدد على مفهوم “الاستقلال الاستراتيجي” لأوروبا الذي روّج له منذ سنوات، وحذّر مما أسماه “الفخ الذي قد يؤدي إلى الوقوع في أزمات ليست لنا”.

وبدوره، أعرب وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير عن أسفه لأنّ “البعض في الولايات المتحدة يعتقدون أنه يجب علينا فصل الاقتصادات الأوروبية عن الاقتصاد الصيني، في حين يتزايد حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة”.

وبدأ تصاعد الخلافات بين واشنطن وباريس يذكّر بالخلافات بينهما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، التي أدت إلى انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي.

الاستقلال الاستراتيجي

شدّد الرئيس الفرنسي على ضرورة ألّا تكون أوروبا تابعة للولايات المتحدة أو الصين في ما يتعلق بالأحداث في تايوان.

وتساءل ماكرون قائلاً “لماذا علينا اتباع الإيقاع الذي يختاره الآخرون؟”.

وقال “في مرحلة ما، علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال أين تكمن مصلحتنا، علماً بأننا لا نريد الدخول في منطق الكتلة مقابل الكتلة”.

ودعا إلى أن يكون “الاستقلال الاستراتيجي” هدف أوروبا الرئيسي، وحذّر من أن تسارع الاحتكار الصيني الأميركي للقرارات الدولية، قد يؤدي إلى خسارة الوقت والوسائل التي تحتاجها أوروبا في سعيها من أجل تحقيق استقلالها الاستراتيجي.

وقال “سنصبح تابعين، في حين أننا قادرون على أن نكون القطب الثالث، إذا توفرت لدينا بضع سنوات لتأسيسه”.

واستهجن الخلط المتعمّد بين استقلالية القرار الأوروبي، وبين تبعية أوروبا للسياسة الأميركية.

وقال “إن التناقض يكمن في العمل على إرساء عناصر لاستقلال استراتيجي أوروبي حقيقي، وفي الوقت عينه اتباع السياسة الأميركية”.

ودعا ماكرون إلى تعزيز الصناعة الدفاعية في أوروبا، وتسريع الجهود المبذولة من أجل تأمين الطاقة النووية والطاقات المتجددة فيها.

السيادة الأوروبية

أكد الرئيس الفرنسي على أهمية تقرير القارة الأوروبية لمصيرها، من خلال خطاب ألقاه في لاهاي، وكشف خلاله عن الخطوط العريضة لرؤيته بشأن “السيادة الأوروبية”.

ويتركز موقف ماكرون حول ضرورة استقلال القرار الأوروبي، بعدما أكد أن الأوروبيين يجب ألّا يتبعوا الولايات المتحدة أو الصين في مسألة تايوان، بل أن يجسدوا “قطبا ثالثا”.

وتعرّضت تصريحاته الداعية إلى دور أوروبي مستقل في مسألة تايوان، وخفض الاعتماد على الأمريكيين في المجال الدفاعي، وتمسكه بحق أوروبا في تقرير مصيرها لانتقادات عديدة.

وكتب الخبير في معهد البحث الاستراتيجي في باريس أنطوان بونداز في تغريدة له على تويتر “ماكرون يجعل من الولايات المتحدة المسؤول الوحيد عن التوتر وليس الصين، رغم أن هدفها السيطرة على تايوان وتغيير الوضع القائم”.

ومن جانبه، قال مدير المعهد البولندي للعلاقات الدولية سلافومير ديبسكي “حصل موت دماغي في مكان ما بالتأكيد”، في إشارة إلى تصريحات ماكرون، مستخدماً نفس المصطلح الذي أطلقه في الماضي على حلف شمال الأطلسي، عندما قال إن الناتو بات “ميتاً سريرياً”.

ماكرون لا يغرّد خارج السرب

كشف رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، أن القادة الأوروبيين يميلون لتوجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة.

وبعد تزايد الجدل الذي أثارته تعليقات ماكرون بأنه ينبغي على أوروبا مواجهة الضغوط وألّا تكون “دولاً تابعة لأمريكا”، قال رئيس المجلس الأوروبي إن موقف ماكرون لم يكن بمعزل عن مواقف الزعماء الأوروبيين، بحسب ما نقلت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية.

وأكد ميشيل في مقابلة تلفزيونية وجود “قفزة للأمام بشأن الاستقلالية الاستراتيجية مقارنة بسنوات مضت”.

وأضاف “هناك بالفعل ارتباط كبير لا يزال موجوداً لهذا التحالف مع الولايات المتحدة، لكن ذلك لا يعني أننا نتبع بشكل أعمى ومنهجي لموقف الولايات المتحدة في جميع القضايا”.

وكان الرئيس الفرنسي قد قال في تصريحات صحفية على متن طائرة العودة من زيارته للصين “على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة من ناحية، وتجنب الانجرار إلى مواجهة صينية أمريكية بشأن تايوان من ناحية أخرى”.

ردود فعل أميركية

رسمياً، أكّد البيت الأبيض أن “لديه ملء الثقة بالعلاقة الممتازة التي تربط بين واشنطن وباريس، على الرّغم من التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي بشأن تايوان، ولقيت ردود فعل غاضبة في الولايات المتحدة”.

ولم تأخذ واشنطن تصريحات ماكرون على أنها علامة جدية على تغير في موقف أوروبا من الخلاف بين واشنطن وبكين، كما قال الباحث في معهد هدسون، ريتشارد وايتز.

وأضاف وايتز أن “ماكرون معروف بأمثال هذه التصريحات، إذ دعا في السابق إلى التفاهم مع روسيا بشأن أوكرانيا، مع أنه قام بعدها بإرسال أسلحة إلى أوكرانيا”.

ولكنه قال إن “الصين رحبت بتعليقات ماكرون لأنها يمكن أن تروّج لمثل هذه التصريحات على أنها علامة للانشقاق في الحلف الغربي، وفي المقابل لم ترحب بها واشنطن للسبب ذاته”.

ورغم أن وايتز يعتقد أن تصريحات الرئيس الفرنسي قد لا تحمل أثاراً واقعية فيما يخص العلاقات الفرنسية الأميركية، يقول إن آثارها قد تكون محسوسة في المشهد السياسي الأميركي حيث “يمكن أن يستفيد منها دعاة قطع الدعم الأميركي عن أوروبا وتركها وحيدة في مواجهة روسيا”.

ويشير إلى أن ماكرون “يحاول اللعب ببطاقات متعددة، وتجنب إظهار تفضيله جانباً على آخر، كما فعل رؤساء فرنسيون مشهورون في السابق مثل ديغول”.

لكن المشكلة حسب رأيه، أن ماكرون لا يمتلك ما يؤهله للعب هذا الدور كما فعل ديغول.

طعنة في الظهر

منذ ان قررت أستراليا فسخ اتفاقها مع فرنسا لتزويدها بغواصات تعمل بالديزل، نشب خلاف سياسي كبير بين الدولتين.

وأثار إعلان كانبيرا أنها ستتخلى عن الاتفاق وتدخل في “اتفاقية أوكوس” سجالاً حاداً بين بلدان الاتفاقية أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة، وفرنسا من جهة أخرى.

ومنذ الإعلان عن الاتفاقية الاستراتيجية رسمياً في أيلول عام 2021، اعتبرت باريس هذه الاتفاقية “طعنة في الظهر، وخيانة من حلفاء مفترضين”.

وشهدت الأيام التي تلت الإعلان عن الاتفاقية، رداً فرنسياً عنيفاً واستخدام مصطلحات غير دبلوماسية، من قبيل “الأكاذيب” و”الوحشية” و”الازدراء”.

وراجت في الأوساط السياسة الفرنسية أفكار حول انسحاب باريس من القيادة العسكرية للناتو،

وصعّد ماكرون الذي كان يستعد للانتخابات الرئاسية في العام التالي، من تصريحاته ضد دول الاتفاقية، وعادت إلى السطح تصريحاته عام 2019، حيث قال إن الناتو بات “ميتاً سريرياً”.

وعاد لطرح فكرة القوة الأوروبية المشتركة، مشيراً إلى إمكانية وجود بدائل عن الناتو.

وبات السؤال المطروح في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية، هل ستنسحب فرنسا من حلف شمال الأطلسي كما فعلت في السابق.

ديغول يخرج فرنسا من الناتو

برز الخلاف الفرنسي الأميركي بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث واجهت فرنسا أزمة استقلال مستعمراتها في الهند الصينية وإفريقيا.

وبينما رفض الفرنسيون فكرة نهاية الاستعمار، أيد الأميركيون التطلعات التحررية للشعوب المستعمرة، خوفاً من إمكانية التحاقها بالمعسكر الشيوعي في فترة لاحقة.

وجاءت معاهدة إنشاء “جماعة الدفاع الأوروبية” لتصعّد من حدة الخلاف بين الطرفين.

وفي شهر آذار عام 1959، انسحبت البحرية الفرنسية المتمركزة بالبحر الأبيض المتوسط من قيادة حلف الناتو، وأعلن شارل ديغول أنه سيعارض تخزين الأسلحة النووية الأميركية على أراضي بلاده.

وفي عام 1964، غادرت البحرية الفرنسية القيادة المشتركة للناتو في المحيط الأطلسي.

وبعد إعادة انتخابه رئيساً لفرنسا، أبلغ ديغول نظيره الأميركي ليندون جونسون عام 1966، رغبة بلاده بمغادرة القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي، وإنهاء تبعية القوات الفرنسية لها.

وأكد على رغبته في استعادة بلاده كامل السيادة على أراضيها، وطالب برحيل القوات الأميركية والكندية عن الأراضي الفرنسية.

مما أسفر عن نقل مقر الناتو الذي تواجد في باريس منذ عام 1952، إلى العاصمة البلجيكية بروكسل.

وساركوزي يعيدها

بعد نهاية الحرب الباردة، ارتفعت في فرنسا أصوات تطالب بالعودة إلى القيادة العسكرية للحلف بعد نهاية نظام القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

وعندما بدأ الناتو عمليات “حفظ السلام” في البلقان في تسعينيات القرن الماضي، عادت القوات الفرنسية للمشاركة فيها، وعادت فرنسا إلى المشاركة في اللجنة العسكرية للناتو.

وكانت فرنسا مهتمة بالانضمام إلى جهود “مكافحة الإرهاب” التي بدأت تحتل مقدمة الأوليات الفرنسية والعالمية بعد هجمات 11 أيلول، ولكن باريس عادت إلى الخلاف مع الأمريكيين بعد أن رفض الرئيس الفرنسي جاك شيراك المشاركة في غزو العراق تحت إدارة الرئيس جورج بوش عام 2003.

وفي العام التالي تراجع الخلاف بين البلدين، وقررت فرنسا تعيين موظفين دائمين في مقار الناتو، قبل أن يعلن الرئيس نيكولا ساركوزي عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي رسمياً عام 2009.

ولقي قرار ساركوزي آنذاك، انتقادات شديدة من قبل أوساط فرنسية عديدة، وخاصة من اليسار الفرنسي الذي اعتبر أن القرار يفقد فرنسا استقلاليتها، وأن “الكلمة الأخيرة فيما يتعلّق بالقرارات العسكرية والاستراتيجية ستكون للولايات المتحدة”، حسب تعبير جون مارك آيرو البرلماني الاشتراكي آنذاك.

هل يعيد ماكرون ما فعله ديغول

يبدو أن مخاوف ديغول من تصاعد النفوذ الأمريكي داخل الحلف وحول العالم، ورغبته في الحفاظ على استقلالية بلاده وقرارها السياسي، لا تزال مستمرة حتى اليوم، وعززها قدوم ماكرون إلى السلطة، فهو من أكثر الرؤساء الفرنسيين المشككين بفاعلية الناتو، والداعين إلى إيجاد بديل أوروبي عن الحلف، وهو ما عبّر عنه خلال اجتماع الاتحاد الأوروبي في العاصمة السلوفينية ليوبليانا، حيث كانت قضية تمتع أوروبا بـ”استقلال ذاتي استراتيجي في مجال الدفاع” البند الرئيسي على جدول الأعمال.

وعزز موقف رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، موقف ماكرون من خلال رسالته التي وجهها إلى دول المجلس للاجتماع في سلوفينيا التي تولت الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي عام 2021، حيث دعا إلى “نقاش استراتيجي حول دور الاتحاد على الساحة الدولية”.

وحاول الرئيس الفرنسي إقناع شركائه الأوروبيين بتجديد تضامنهم مع باريس، وتحرير أنفسهم من الحليف الأميركي.

ويرى مراقبون أن صعوبة إيجاد بديل لحلف الناتو في المرحلة الحالية، وتخوّف ماكرون من الإقدام على خطوة باتجاه الخروج منه، وعدم تمتعه بشعبية كشعبية الرئيس ديغول، قد يؤجل هذه الخطوة ويعطي المرشحين الذين يتنافسون على مقعد ماكرون خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، فرصة أكبر للقيام بها، حيث وعدت اليمينية المتطرفة مارين لوبان بسحب فرنسا من الجناح العسكري لحلف الناتو في حال فوزها بمقعد الرئاسة.

وتعهد اليساري الراديكالي جان لوك ميلينشون، بالقيام بهذه الخطوة في حال فوزه.