لكل السوريين

مؤرخ حلب ” محمد راغب الطبّاخ “وحكاية كتابه “إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء “

حلب/ خالد الحسين

ولد المؤرخ الحلبيّ الكبير الشيخ “محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ” عام 1885 في حيّ باب قنسرين بحلب، لأسرةٍ عُرفت بالعلم والتصوّف والتجارة، وبعد إكمال تعليمه، بدأ حياته المهنية بالتدريس في الثانوية الشرعية في حلب (المدرسة الخسرويّة) ثم أصبح مديراً لها، وقد طوّر مناهجها الدينية والشرعية. وقد تولّى الأمر ذاته في عددٍ من المدارس الشرعية الأخرى في حلب، ومنها الشعبانية والعثمانية كان “الشيخ الطباخ” ناشطاً في خدمة الحياة العامة، إذ كان عضواً في مجلس معارف حلب وفي المجمع العلمي العربي وفي اللجنة الإدارية للمتحف الوطني بحلب وغرفة التجارة ودار الأيتام الإسلامية، كما أنه كان أحد أبرز مؤسسي (جمعية العاديّات) عام 1924 وقد تولّى رئاستها بين عامي 1934 و1940. كما قام بإنشاء جمعية البر والأخلاق الإسلامية، ثم تولّى رئاسة رابطة العلماء بحلب حتى وفاته عام 1950 في حلب. وقد مُنح قبل وفاته بعامين وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وكان “الشيخ راغب الطباخ” قد أنشأ مطبعةً في حلب، سمّاها المطبعة العلمية وطبع فيها مؤلفاته ومؤلفات أخرى من نفائس الكتب التراثية في التاريخ والحديث واللغة والأدب، لا شك أن أهم مؤلفاته هو الكتاب الضخم إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء الواقع في سبعة مجلدات، ومن مصنفاته الأخرى الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحلبية، و ذو القرنين وسدّ الصين، و الثقافة الإسلامية، كما أنه قد جمع الأشعار المتفرقة لشاعر حلب “أبي بكر الصنوبري” في كتاب سمّاه الروضيـّات.

وإذا أردنا أن نبدأ بوضع قائمةٍ بأهم الكتب في حلب، لوجدنا أننا سنستهلّها بكتاب إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء للشيخ “محمد راغب الطبّاخ”، فهو مكتبةٌ في كتاب، ففي مقدمة هذا الكتاب، والتي تتألف من فصلين، يبيّن المؤلف في الفصل الأول ما وضعَه فضلاءُ الشهباء من التواريخ الخاصة بها، وعددها عشرون، ويتكلم في الفصل الثاني عمّا وضعه فضلاؤها من التواريخ العامة، وعددها خمسة وثلاثون. وهكذا يضعنا الشيخ “محمد راغب الطبّاخ” قبل أن يدخل في موضوعه أمام 73 مؤلَّفاً حلبياً، مع الإشارة إلى أماكن وجودها.

يتألف القسم الأول من الكتاب من ثلاثة مجلدات، فيها ذِكْر لملوك حلب وأمرائها وما جرى فيها أيامهم من أحداث وما لهم من آثار، ويمتد هذا التاريخ من الفتح العربي إلى الاحتلال العثماني، ويتألف القسم الثاني من أربعة مجلدات فيها 1398 ترجمةً لشخصياتٍ حلبية، فيهم الأمير والوزير والفقيه والوجيه والخطيب والطّبيب والشاعر والأديب والتاجر والزعيم، وغيرهم من ذوي المزايا وأرباب المناقب، ويمتدّ تاريخ هذا القسم من أوائل القرن الثالث للهجرة حتى تاريخ طبع الكتاب عام 1922.

يقول الشيخ “الطبّاخ” في شرح خطة عمل مؤلَّفه الضخم، إنه توخّى في عمله أسلوب البسْط والاستقصاء.

فالبسْط: هو التوسّع في شرح المادة، أما الاستقصاء: فيعني التوسّع في جمع المصادر. فالتوسّع يقلّل احتمال الخطأ والأخذ والسير بالاتجاه الواحد، وهو يشرح ذلك قائلاً:”لم يقع نظري على ترجمةٍ لحلبيٍّ في كتابٍ من الكتب التي اطلعتُ عليها، إلا ونظمتُها في عِقد هذا التاريخ، ويزيد ما تصفّحتُه من الكتب عن ثلاثمائة مجلد، هذا غير المجاميع، والأوراق المبعثرة التي ظفرتُ بها في الخزائن، وما تلقّيته من أفواه الرجال الذين أثق بهم، ولا تسلْ عما تكبّدته من المشاق، وما تجشّمته من المتاعب، في سبيل الحصول على هذه المواد، واقتناص شواردها، وجمع شملها المتبدّد، حتى انتظم منها عقد هذا التاريخ، وتراصفت مبانيه”.

ثم يختم العبارة بهذين البيتين من الشعر:

وطالما واصلت ليلي بالسهر

كأن سِلكُ عِقدها المجرّه

أرعى النجومَ لالتقاطيَ الدرر

أضم فيه درّة فَدرّه

فضيلة “الطبّاخ” هي تقديم الوثائق وليست تقديم الحقائق، فقد درج المؤرخون الغربيون وخاصة مؤرخي القرن التاسع عشر على الاعتقاد بأنهم يستطيعون أن يقدّموا صورةً كاملة نهائية عن الماضي الحقيقي، استناداً إلى ما يقع تحت أيديهم من الوثائق. فالتاريخ في نظرهم هو علمٌ موضوعيّ يتألف من مجموعةٍ متكاملة من الحقائق الموضوعية التي تستند على الوثائق المؤكدة. ولكن هذه الوثائق مهما بلغت من الكمال تبقى ناقصة، وقد تكون متناقضة، وتعوزها الدقةوالموضوعية.

يؤكد الواقع عملياً أن المؤرخ يكتب دوماً بمواد ناقصة، ويكشف عن جانب من الحقيقة، وتتغير النظرة التاريخية باختلاف زاوية النظر إلى الماضي. فلو أخذنا شخصيةً تاريخية معروفة كشخصية “تيمورلنك”، فنحن نعرفه كأحد كبار الطغاة في التاريخ، وما زالت ذاكرتنا مشحونةً بفظائعه في حلب ودمشق، ولكننا نجده معروفاً في عاصمة بلاده (سمرقند) بأنه كان رجل علمٍ وأدب ودين، ويشهد على ذلك العشرات من المدارس والمساجد التي بُنيت في عهده. وهو الذي أسس السلالة التيمورية التي كان لها إسهام في عطاءات الحضارة الإسلامية.

كما تتعرض الوثائق إلى عملية الغربلة، وهي عمليةٌ مقصودةٌ نقيض البسْط، ويغربل المؤرخ الوثائقَ التاريخية وينتقي منها ما يؤيد دعواه لأسباب عديدة منها دينية أو أيديولوجية أو عقلانية أو لدوافع أخرى هذا ما فعله معظم مؤرخي القرن التاسع عشر وبعض المحدثين في كتاباتهم التاريخية، تماماً كما فعل “سوفاجيه” حين طوّع تاريخ المدينة ليثبت دعواه العنصرية كما أن الوثائق تختلف فيما بينها باختلاف مظانها، فإذا أخذنا مثلاً وثيقةً تاريخية مهمة كقصيدة “أبي تمام” المشهورة التي قيلت في فتح عمّورية: السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ، نجد أن “أبا تمام” يحدد عدد قتلى عسكر الروم بتسعين ألفاً، ولكننا نجد من يؤكد أنه في ذلك الزمان كان تعداد جيش الروم كله لا يبلغ هذا الرقم. أما تزييف الوثائق كما يفعل الصهاينة، وبعض الإعلاميين الغربيين. فهو يضاف إلى جرائمهم ضد الإنسانية، ولا يناقَش في باب نقد الكتابة التاريخية، وكانت خطة “الطبّاخ” في تعامله مع الوثائق في موسوعته إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء تقوم على ثلاثة مبادئ وهي التوسُع في المادة التاريخية، والتماسُها في مصادرها المتعددة، وإسنادُها إلى هذه المصادر، وهذه خطةٌ مقصودة، وبرنامج عملٍ هادف يتردد ذكره في المقدمة فيقول: “ومن مزايا تاريخي، أني عزوتُ كلَّ حادثة، وكلَّ ترجمة، إلى الكتاب المنقولة عنه، وما تجده غيرَ معزوّ، أو بعد كلمة “أقول”، فإنه مما أملاه فهمي الفاتر، وقلمي القاصر، قصدت بذلك أن يكون القارئ مطمئنَ البال، وليسهلَ عليه الرجوع إلى الأصل عند اقتضاء الحال”.

فهل من أمانةٍ بعد هذه الأمانة، وتواضع بعد هذا التواضع؟ فلا عبث بالوثائق ولا تغيير، إنما هو عمل موسوعي يقوم على منهجٍ واضح، يضمن حيادَ الكاتب وحريةَ القارئ الباحث، وهو أقرب إلى الكتابات التاريخية المعاصرة، منه إلى أعمال بدايات القرن الماضي، وبذلك يكون الشيخ “محمد راغب الطبّاخ” سابقاً لعصره.

“الطبّاخ” وكتابة التاريخ قال بعضهم إن “الطبّاخ” أرّخَ كلَّ شيء عن المدينة، وهذا قولٌ يكاد يكون صحيحاً في إطلاقه، ولكن آخرين قالوا إنه لم يؤرّخ شيئاً، بدعوى أنه نقلَ نقلاً، وهذا قول فيه جهلٌ فاضح، وظلمٌ كبير، يتضح هذا الظلمُ، وهذا الجهل بمقارنة منهج الإخباريين المسلمين بمنهج علم التاريخ و يذهب بعض قصيري النظر من الباحثين، أن علماء التاريخ المسلمين لم يكن عندهم منهج في البحث التاريخي، فهم إخباريّون فقط، يسرُدون المعلومات دون تمحيص أو تقصٍّ ، فترى أخبارَ الملوك والأمراء تُجاور أخبارَ عجائب المخلوقات والخرافات، وهذا يعني في نظرهم أن علماء التاريخ المسلمين لا يميزون بين الحقيقة والوثيقة، ويضعون في السلّة نفسها أخبار الملوك وأخبار المجاذيب.

والحقيقة أن الكتابة التاريخية عند علماء المسلمين متأثرةٌ إلى حدٍّ بعيد بالكتابة الدينية، فعلوم الدين من تفسيرٍ وسيرةٍ وحديث، كلها تقوم على تداوُل أخبارٍ تأتينا من الماضي، يمكن اعتبارها كوثائق تختلف مصادرها ومصداقيتها، فمنها أخبار موثوقةٌ وهي النص القرآني، والصحيح من الحديث، وما تمّ الإجماع على صحته من السيرة النبوية، ولكن إلى جانب هذا القسم الموثّق والموثوق، يوجد آلاف من الأحاديث الموضوعة، وقصص الأنبياء، والإسرائيليات التي تملأ الكتب الصفراء من تفاسير، وكتب دخيلةٍ على الدين، و لم يلجأ علماء المسلمين إلى إلغاء النصوص المشكوك بأمرها، أو التعتيم عليها، بل لجأوا إلى وضع منهجيةٍ صارمة للتعامل مع النصوص متنِها وسندِها. وتناولوا رواة النصوص بمنهج الجرح والتعديل وهو منهج فقهي يستعمل لتحديد مصداقية الرواة أما المتن، فالعاقل يستطيع أن ينظر في شرعية هذه النصوص ويميز بعقله بين النص والرأي، والصحيح والخطأ: هذه هي الأمانة التاريخية في التعامل مع الوثائق، وهذا جزء من منهج “الشيخ الطبّاخ” في كتابته للتاريخ، وهو منهج “الشيخ كامل الغزّي” نفسه، ومنهج “خير الدين الأسدي” من بعده ولا عجب، فكلهم كانوا من طلاب العلوم الشرعية.