لكل السوريين

خان النحاسين بحلب.. عبقٌ من التاريخ العريق

تقرير/ خالد الحسين

جاءت تسمية خان “النحاسين” بهذا الاسم لأنه كان يحوي داخله على مهنة النحاسة قديماً ، تحوّل بعد ذلك لبيع المواد الغذائية من الحبوب وغيرها ، ثم تحولت تجارته قبل حوالي السبعين عاماً من تاريخنا هذا إلى تجارة الأحذية المصنعة محلياً.

بنى هذا الخان (محمد باشا دقه كين ) في الفترة الواقعة ما بين عام (٩٥٧ _٩٥٨) هجري (١٥٥٠ _ ١٥٥١) ميلادي.

تمتاز واجهته بتناوب الحجارة الحلبية الصفراء والسوداء الخالية من الزخارف ، وله باب ضخم يفتح بمصراعين ، كما يوجد باب صغير ضمن الباب الكبير يسمح بدخول الأفراد منه بعد إغلاق الباب الكبير ليلاً.

وعلى الطرف الشمالي من بوابة العبور نحو الداخل توجد عبارة معلقة على الجدار كتب عليها:” اطلبوا العلم ولو في الصين” أقيمت هذه اللوحة بمناسبة زيارة المستشرق المجري الشهير (شاندور كورشي تشوما) لمدينة حلب في الفترة الواقعة مابين ١٣ نيسان – ١٩ أيار ١٨٢٠ م في طريقه للبحث عن الوطن الأصلي للشعب المجري.

المجمع العلمي المجري.

يحوي هذا الخان على حوالي (١٨) محلاً تجارياً أرضياً ، وبركة ماء وبئر ، وقد أزيلا فيما بعد ويبدو أثر إزالتهما واضحاً حتى الآن .

كما يحوي على طابق علوي يوجد فيه مكاتب ودار للسكن ، تلك الدار هي أقدم دار للقناصل بنيت على سطح خان النحاسين في عام ١٥٣٩م ، وعرفت فيما بعد بدار “بوخه” الأثري الذي له أهمية أثرية وتاريخية كونه كان مقراً لقنصلية البندقية منذ عام ١٥٤٨ حتى عام ١٦٧٥ م .

أول من سكن تلك الدار هو السيد ( جوزيف بوخه ) التاجر النمساوي الذي وصل بتجارته إلى مدينة حلب عام ١٨٢٠ م وقد كان وكيلاً لمبيعات الكريستال البوهيمي من النمسا.

سكن مع زوجته التي كانت ابنة آخر قنصل للبندقية ورزقا بخمسة أولاد كانوا ذو مكانه رفيعة جداً في شبابهم.

وتوارث أحفادهم تلك الدار وجعلوها مقراً للقنصليات التي عينوا قناصل فيها ، منها قنصلية البندقية ، النمسا، بلجيكا ، هولندا ، روسيا ، وغيرها من القنصليات الأوربية.

آخر من شغل تلك الدار من عائلة بوخه هو الطبيب ( أدولف بوخه ) الذي درس الطب في فيينا وفرنسا ثم عاد إلى حلب وفتح عيادته في منطقة “قسطل الحجارين” القريبة من الجامع الكبير ، وقد حاز على وسام الاستحقاق السوري ، وترأس جمعية العاديات لفترة طويلة ، كما يشغل منصب القنصل الفخري لبلجيكا.

تزوج الطبيب أدولف من إنكليزية وأنجب منها ابنته الوحيدة “أوجيني” وهي من مواليد حلب عام ١٩٤١ حيث عاشت وكبرت في تلك الدار إلى أن تزوجت من السيد “جورج مرّاش” وهو سليل عائلة حلبية عرفت بدورها الرائد في الفكر والأدب ، وشغل منصب القنصل الفخري لبلجيكا ومن بعده ابنه البكر السيد “باسيل”.

عملت السيدة والأديبة “أوجيني” بعد زواجها على إبقاء دار بوخه التاريخية مفتوحة كل يوم جمعه للعموم من الزوار والسيّاح ، مما جعل الدار أقرب إلى المتحف لما ضمته من كتب وخزفيات وأيقونات وتحف نادرة وأرشيف مراسلات رسمية ضخمة.

كما تضم الدار معرضاً لصور فوتوغرافية التقطها الدكتور” ألبير بوخه” تعتبر من أضخم أرشيفات الصور الفوتوغرافية لمدينة حلب.

وبقيت دار بوخه مفتوحة إلى أن حطت الحرب اللعينة أوزارها على تلك الأسواق في مدينة حلب القديمة.

وفي عام ٢٠١٢ عمل الإرهابيون على سرقة محتويات تلك الدار وتهريبها إلى الخارج كما عملوا على تدمير هذا المنزل العريق.

لم تتحمل السيدة “أوجيني” ما جرى في منزلها ومنزل أجدادها وهي التي كانت ترفض السفر إلى الخارج ومغادرة مدينتها حلب ، فأصابها الحزن والمرض إلى أن توفيت عام ٢٠١٥ في خدمة تاريخ حلب حيث أصدرت كتاب “صور جدي” عام ٢٠٠٦م وآخر تحت عنوان “دار بوخه”، الذي صدر عام ٢٠٠٣م فكانت خير سفيرة لمدينة حلب خلال القرن العشرين، بعد توثيقها لتاريخ تلك الدار ولمدينة توارثت عشقها من أبيها وأجدادها.

ورحلت السيدة “أوجيني” حفيدة التاجر جوزيف بوخه النمساوي وابنة الطبيب أدولف ، تاركة خلفها أطلال ذكريات لمنزل ترامت جنباته على عرائش ياسمين وانتماء.

وفي لقاءٍ مع ابنها البكر السيد باسيل مرّاش ” القنصل الفخري لبلجيكا ” في دار أجداده تحدثنا طويلاً عن تاريخ أسرته أثناء جولتنا في الدار واستعراضنا للصور المتبقية للعائلة على جدران احتضنت تاريخهم العريق.

كما أشار إلى متابعته ترميم الأضرار والحفاظ على ماتبقى من رائحة الأجداد.

أما بالنسبة لخان النحاسين فقد عملت منظمة UNDP لدعم سبل العيش على مد يد العون لأصحاب المحال التجارية في هذا الخان المتضررة بعضاً من محاله وسطحه وذلك بمنحهم أبواباً ورفوفاً من البلّور ومقاعداً للجلوس لمساعدتهم على مواصلة عملهم ويبقى عبق المكان غنيٌّ بحضور قديم وعريق.