لكل السوريين

الأزمة الأوكراينية… بؤرة صراع جديدة

التاريخ البشري المكتوب يدل على الصراع الدائم بين قوى احتكارات السلطة والثروة في سبيل توسيع نفوذها أو احتكاراتها، والخاسر دائماً كانت الشعوب أو المكونات التي تنساق خلف تلك الاحتكارات بذرائع ودوافع مختلفة يبتكرها أصحاب السلطة أو الثروة، ويتمكنون من إقناع أو خداع شرائح من الشعوب أو المكونات بعدالة الحرب التي يخوضونها، فإما أن يكسبوا أو يخسروا مراهنتهم، ولكن الخاسر الأكبر هو الشعوب أو المكونات التي تنساق خلفهم.

هل ذلك يعني أنه لا حرب شريفة أو حرب مقدسة بالمعنى الذي يتم تسويقه عبر التاريخ؟ بالطبع هناك حرب شريفة ومقدسة وهي الحرب التي تأتي في إطار الدفاع المشروع عن النفس أو عن الوجود في مواجهة المعتدي، دون الانزلاق إلى الخداع والتمويهات التي تمارسها احتكارات السلطة والثروة، التي تحاول دائماً تغليف حربها بالمقدسات، كاستخدام الدين أو الانتماء الأثني وسيلة للسياسة وشد الشعوب إلى الاقتتال، مثلما نشاهد ذلك عبر التاريخ من خلفاء أو سلاطين أو مونارشيات أو الأسرة الحاكمة.

بؤر الصراع انتقلت من بقعة إلى أخرى في العالم، واللاعبون المتصارعون اختلفوا في انتماءاتهم وذرائعهم في كل بؤرة، وكان هناك مستفيدون وخاسرون دائماً من بين أصحاب الاحتكارات، ولكن الشعوب من الأطراف المتصارعة هي الخاسرة دائماً سواء من دماء أبنائها أو ثرواتها أو سيادتها. بينما قليل من البلدان أو الشعوب التي استطاعت فرض إرادتها ورسم مستقبلها وسط هذا الصراع القذر بين الاحتكارات، بعد أن دفعت ثمن حريتها ووجودها غالياً في وجه الاعتداءات التي استهدفتها من جانب احتكارات قوى الهيمنة.

أوكراينا بلاد تعرضت لغزوات واحتلالات عديدة كسائر بقاع العالم، وتنوع سكانها من حيث الانتماء الاثني أو العقائدي حسب الهجرات الطوعية أو الإرغامية على مدى التاريخ، آخرها كان الاتحاد السوفييتي الذي كانت أوكراينا جزءاً منه، ونظراً لأن الاشتراكية المشيدة لم تستطع حل مسألة الانتماءات الأثنية بما يلبي طموحات منتميها والعيش المشترك بينها، بقيت هذه المسألة تمثل الخاصرة الرخوة لديها. وعندما انهار نظام الاشتراكية المشيدة نتيجة لأخطائها الداخلية أولاً والهجمات الخارجية عليها ثانياً، بدأ الخصوم باللعب على وتر الانتماءات الأثنية لتفكيك ما تبقى من الاتحاد السوفييتي ومن ثم التطاول على روسيا الاتحادية وريث السوفييت.

سارع الحلف الأطلسي- الناتو بعد انهيار حلف وارسو إلى ضم ما أمكن من بلدانه إلى الناتو بما في ذلك بولندا وبلغاريا وبعض الجمهوريات الصغيرة وتوقفت عند أوكراينا للحساسية البالغة نحو الإتحاد الروسي، وحاولت تمرير إحدى الثورات الملونة هناك، مما أدى إلى تمردات في الأقاليم التي فيها نسبة كبيرة من الروس مثل دونباس. فما كان من روسيا الاتحادية إلا أن تضم شبه جزيرة القرم إليها لوجود أغلبية روسية نتيجة التغيير الديموغرافي الذي جرى في عهد ستالين. ولازالت محاولات ضم أوكراينا إلى الناتو أو ربطها بمعاهدة ما جارية حتى الآن، وباتت بؤرة جديدة للصراع الدولي بين روسيا الاتحادية من جانب وأوكراينا ومن خلفها الناتو من الجانب الآخر.

روسيا تدرك أنه لو قويت شوكة أوكراينا بالناتو فالخطوة التالية ستكون المطالبة بالقرم، ولهذا اعترفت رسمياً بجمهوريتين صغيرتين في إقليم دونباس على أن تطالب بالمزيد فيما بعد. هذا ما يجري في العلن أما في الخفاء فقد تم إرسال عشرات آلاف المرتزقة من الجانبين إلى منطقة الصراع لتبدأ الاشتباكات التي ظهرت بوادرها منذ بدايات التوتر. فلن يكون هناك صدام مباشر بين روسيا والناتو لأن كلا الطرفين يدركان مدى الدمار والخراب الذي قد ينجم من هكذا صراع، ولهذا يفضلان الحرب بالوكالة أي عن طريق المرتزقة، فتركيا التي زودت أوكرانيا بالمسيرات المسلحة وهي عضو في الناتو ولديها مخزون كبير من المرتزقة من الدول السوفييتية وكانت تحارب بهم في سوريا وليبيا وأرمينيا ستكون مستعدة لإرسالهم إلى أوكراينا أيضاً، وكذلك روسيا التي تحارب في الخارج من خلال شركة فاغنر ستكون مستعدة لتجنيد المزيد منهم في دونباس، وهكذا ستحدث حرب استنزاف ربما تستمر لسنوات، ويستفيد منها تجار الحروب واحتكارات السلطة مرة أخرى. فحسب تصريحات الروس سيحاولون اجتثاث النازية من أوكراينا وفي ذلك تذكير بموقفها عندما وقفت إلى جانب ألمانيا في غزوها على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية.

إنها بؤرة صراع قد يمتد القتال فيها لعقود طويلة لتستفيد منها إحتكارات السلاح والثروة والسلطة والخاسر هو الشعوب مرة أخرى، كما كان عبر التاريخ.