لكل السوريين

صور من الواقع

عبد الكريم البليخ 

بعض الناس، ومنهم أدباء ونقاد وقارئون، تبهرهم الأسماء الأدبية أو الفنية المشهورة، أو المتداولة على الألسنة، مثلما التماعة (الفلاش)، يَغمرهم للحظات بالدهشة والضوء وارتعاشة الأهداب، فإذا هم أسرى هؤلاء المشهورين، يرجحون كفّتهم كيفما كان حال (الميزان)، ويؤثرونهم على سواهم إعجاباً وانبهاراً، حتى ولو يكن نتاج أحد هؤلاء الرائجة أسماؤهم، يستحق ذلك. ولكنه سحر الاسم وتأثيره يفعل فعله، فما يملك (المبهور)، أو المخدوع أن يعترض أو حتى يناقش لئلا يَشك أحد في ذوقه، أو يستخفّ برأيه، وكم في ذلك من لطائف ومواقف، بعضها يُروى هنا للعبرة والذكرى والتاريخ والجغرافيا إن شئت..

ذات يوم، من سنوات طويلة، وفي عاصمة عربية حمل زميل صحافي ـ يشرف على صفحة أدبية ـ قصة قديمة لتوفيق الحكيم اسمها على ما أذكر (العالم سنة مليون) إلى عدد من نقّاد وأدباء (ذلك الزمن!) في تلك العاصمة، على أنها من تأليف قارئ متأدّب، يحسب نفسه أنّه أعاد فتح الأندلس بقصته تلك، وطلب الزميل من الذين استفتاهم ابداء رأيهم في (محاولة) القارئ، فتباروا ـ ولا مباريات كأس العالم ـ في ردح وقدح القصة وصاحبها، ونصحوه بعد أن (شرشحوه)، بأن ينقعها ويشرب ماءها، ويبحث له عن هواية يتسلى بها، غير الأدب والقصة، لأن القصة يا بني، صعب دربها، وعسير ادراكها، والحبكة عندك كذا، والسرد كيت، والنتيجة كتاكيت…!

وبعد أيام، والدعاية الثقيلة للزميل نفسه ما تزال ـ سحب صاحبنا من درج مكتبه قصة عادية، بل وسطحية نائمة في بريد القرّاء كان قد بعث بها قارئ من الدرجة الثانية ـ إن جاز التعبير ـ وتوجها الزميل المشرف على صفحة الأدب، باسم توفيق الحكيم، على أنّها واحدة من قصصه القصيرة المنسيّة، والتي لم يسبق نشرها: وإنه في صدد رصد الآراء و (التحليلات) النقدية أو الطبية من بعض النقاد والأدباء المبهورين بالأسماء، فما كان منهم إلا أن أخذوا يتبارون بالحماسة نفسها، كل باسلوبه ومصطلحاته في إظهار(محاسن) القصّة، واضفاء الهالات عليها، وبعضهم اعتبرها فتحاً عظيماً ـ يزري بفتح الأندلس ـ في كتابة القصة القصيرة على أصولها، ويؤكد أحدهم ـ ما دام سوق المزاد قائماً على هذا النحو ـ إنّها أيّ وربّي ـ من أفضل ما كتب توفيق الحكيم من قصص، وطالب آخر بمزيد من مواصلة البحث والتنقيب ـ بالإذن من التنقيب عن النفط ـ عن مثل هذه القصص الرائدة الناهضة، المنسية المخفية لتوفيق الحكيم وغيره من الأدباء الكبار..

ولا بد أنكم تعرفون (خلاصة) ما حدث بعد ذلك! فقد نشر الزميل الأديب تفاصيل (المقلب) الصحفي الذي شربه بعض نقاد ذلك الزمن، وأوضح الالتباس، وكشف (اللعبة) التي انطلت حيلتها على أصحابنا الأفذاذ، تحت عنوان ـ مع عدم المؤاخذة يا جماعة!

ويومها كمَن له الجماعة عند أحد المقاهي، وتربّصوا به الدوائر لتلقينه درساً لا ينساه في عدم أمانة (المقالب الصحفية).. ولكن صاحبنا فرّ بجلده وفروة رأسه إلى يوم الناس هذا وقد علّمته الحياة أنَّ القيمة ـ في لغة التعامل ـ للفعل لا للاسم..

***

هل صارت العزلة عن الناس، في هذا الوقت بالذات، تعد مطلباً يُلحّ علينا باستمرار إلى أن نعيد النظر إليها ونركن لها ونستجيب، لا سيما أنّ العلاقات في هذه الأيام، وفي السنوات الأخيرة، شابها الكثير من التناقضات وللأسف، وإن دلّت على شيء فإنها تدل على أنها أضحت مرهونة بمدى توافر السيولة المادية المرسلة للزبون من دعم قبل كل شيء. أقصد بقدر ما تقدمه من مساعدة مالية سواء لذاك القريب أو البعيد فستكون مكانتك لها حضورها، وأنه مرغوب بك، ومَرضي عنك كل الرضا.. وستكون محبوباً من قبله، مهما دنت مكانتك أو علت.

الأهم هو إرسال حاجاتهم والعمل على توافر المبلغ المالي المحدّد، ودفعه في الوقت المناسب، وفي حال عدم تلبيتك لرغباته فهذا يعني أن الدنيا تقوم ولن تقعد، والأنكى من ذلك، نكران ما سبق أن قمت بتقديمه من خدمة، وإن كانت بالكاد تذكر.

فالعزلة عن الناس، صارت مطلباً ملحاً، وإن كانوا من أقربهم إلى القلب، فهو الحل الأمثل للخلاص من أمثال هذه الشريحة التي لا تعرف أي مبدأ كان، وإن كان هدفها من التواصل هو العمل على تأمين احتياجاتهم المادية ليس إلا، وأعدادهم في ازدياد مستمر، ولا أظن أنها ستتراجع عن رغبتها وهدفها ونيتها، في سعيها طلب المزيد ما دام أن أمثال اللاجئين، المعوّل عليهم، بالدعم غزوا أوربا والقارة الأميركية بمئات الآلاف، غير مدركين أمثال هؤلاء وغيرهم يعتاشون على مساعدة الحكومات، وبالكاد أنها تغطي احتياجاتهم، لا سيما أنَّ المطالب كثيرة، وما يؤخذ في اليد اليمنى يصرف في اليسرى.

كل ما نريد أن نقوله، بوركت تلك الأيدي لم تقصر في تقديم يد المساعدة لأمثال هؤلاء الذين هُجّروا من بلادهم عنوة، وهاهم اليوم صاروا يرسمون خطواتهم، ومستقبل أبناءهم في الطريق الصحيح، في ظل تلك البلاد التي آوت حاجتهم ومعاناتهم.

***

توقفت كثيراً عند موقف القاضي الذي حكم يوماً على نجم نادي إيفرتون والمنتخب الإنجليزي “واين روني” بتنفيذ عقوبة “الخدمة المجتمعية”، وعدم الاكتفاء بالغرامة، بعدما تم توقيفه وهو يقود سيارته مخموراً؛ حيث حاول محامي اللاعب جاهداً أن يثني القاضي عن العقوبة المهينة، وأبدى استعداده لدفع الغرامة مهما كانت قيمتها، حتى لو تمت مضاعفتها؛ لكن القاضي قدم الدرس للعالم كله في معنى “الردع” والمغزى من العقوبة حين قال: “لن أشعر بالرضى حتى لو كانت الغرامة مرتفعة جداً؛ لأنها لا تؤثر في اللاعب مثل الخدمة المجتمعية”.

وبناء عليه سيرتدي نجم الكرة الانكليزية الكبير البدلة البرتقالية الخاصة بعمّال النظافة في إنجلترا؛ ليقوم بكنس الشوارع، وتنظيف الجدران لمدة 100 ساعة حتى يتعلّم كيف يحترم قوانين البلد، وكيف يكون ملتزماً منضبطاً مثله مثل أي مواطن آخر.

الدروس المستفادة من هذه القصّة كثيرة، وتلقي بظلالها على صعد كثيرة في مجتمعاتنا العربية بوجه عام؛ لكن إذا توقفنا حيال ما يخصنا منها، فأمامنا النجم الكبير؛ بل الكبير جداً بحسابات بلده والعالم أيضاً، وكيف كان العقاب والقصاص؛ لكي يتحقق معنى “الردع”، الذي هو جدوى أيّ عقاب في كل زمان ومكان.

وفي وطننا العربي الكبير.. لو تمّت معاقبة لاعب واحد على تسيبه وانفلاته، أو عدم انضباطه في أي نادٍ كان أو بالمنتخب لاتعظ البقية، فالكرة العربية التي لم يعد لها اليوم لا لون ولا طعم  ولا رائحة ما دام أنَّ الإدارة القائمة عليها باتت تقف موقف المتفرج حيال النتائج المخيّبة للآمال التي تحصدها سواء لجهة كرة القدم أو الألعاب الرياضية البقية التي تشارك في اللقاءات الرسمية والودية، وما زالت تقدم صورة باهته لسمعة الوطن الكبير الذي يحتضر ويعاني، وما يهم تلك الادارات الحفاظ على مناصبها، بغض النظر عن النتائج المفرحة التي تنعش قلوب جماهيرها وتبث فيها المتعة والرغبة في كسر حاجز هاجس الخوف الذي طالما تعاني منه، والاكتفاء بحصولها على أدنى مرتبة رياضية تشارك فيها. كل ذلك لمجرد المشاركة بعيداً عن تحقيق الرغبة في الفوز وكسب السبق الذي يعني الآخرين والركض باتجاهه.