لكل السوريين

هل نتقاسم الرغيف أم نتنازع عليه

صالح مسلم

قوت الإنسان كان مسألة مصيرية منذ نشوء البشرية، بقاؤها أو زوالها كان مرتبطاً بتوفر القوت، ففي البداية كان صراع البشرية مع الطبيعة لتأمينه، ثم انتقل الصراع إلى داخل البشرية مع تطور احتكارات السلطة والثروة. فعندما استطاع الرجل القوي الماكر الاستحواذ على السلطة بدأ باستخدام سلطته في احتكار القوت (الثروة) واستخدامه وسيلة لتعزيز احتكار سلطته وثروته، ليمنح القوت لمن يتعاون معه في السلطة والاحتكار. وهذه المعادلة لازالت قائمة بأشكال مختلفة إلى يومنا الراهن مروراً بشتى وسائل وأنواع تحكم الاحتكارات بالمجتمعات البشرية.

رغم ظهور الأنبياء والرسل والحكماء والعلماء الذين وضعوا النظريات والقواعد والقوانين عبر التاريخ البشري، إلا أن كلها فشلت في تحقيق العدالة التي تخيلوها. وصولاً إلى يومنا الراهن الذي يشهد أكبر المآسي والكوارث لفقدان العدالة وتفاوت نسبة الحصول على القوت والاحتياجات البشرية.

وسط هذه اللوحة العامة للمجتمع البشري يمكننا النظر في مجتمعنا السوري كنموذج للتعرف على حقيقتنا لمعرفة العلة أولاً ثم نبحث عن السبل المؤدية إلى الحلول الممكنة. فتجدر الإشارة إلى أن وطننا السوري كان في مركز كل التطورات والحضارات البشرية، بل ومهداً للكثير منها، ولهذا شهدت سوريا الطبيعية وحتى قبل تسميتها باسمها إلى أن تتحول إلى دولة، كل أشكال احتكارات السلطة والثروة، بل أصبحت ضحية لها في كثير من الأحيان. وما يشهده وطننا السوري ليس سوى حلقة من السلسلة المتدلية من التاريخ.

كل صراع أو نزاع بين احتكارات السلطة والثروة الإقليمية والعالمية تركت بصمتها أو بقاياها في وطننا السوري، بحيث بات مجتمعنا السوري كالفسيفساء الملونة تعكس ذاكرة التاريخ البشري. فالمجتمع السوري أصبح يضم السرياني والأرمني والكلداني والعربي والكردي والشركسي والتركماني وآخرين، على الصعيد الاثني، والمسلمين بكل مذاهبهم والمسيحيين بكل طوائفهم وكنائسهم بالإضافة إلى العلويين والدروز والإيزيديين، وآخرين، على الصعيد العقائدي. وهذه الفسيفساء الملونة تشكل غنى ووسيلة مناسبة لتطوير الثقافات البشرية إذا حظيت بالعناية وتفاعلت مع بعضها البعض، وهذا ما يشير إليه العلم والتجربة البشرية. كما يمكن أن يتحول هذا التنوع والاختلاف إلى معول لتخريب المجتمع، إذا استطاعت قوى احتكار السلطة والثروة تحويلها إلى خلافات ووسيلة للنزاع.

تم رسم حدود الدولة السورية بناء على متطلبات مصالح احتكارات السلطة والثروة في بدايات القرن العشرين، مثلما تم فرض شكل ونمط الحكم في سوريا على شكل دولة القومية الواحدة والدين الواحد والمذهب الواحد، من قبل تلك الاحتكارات وامتداداتها ضمن سوريا، مع الاعتراف ببعض الحقوق للمكون المسيحي. والنزاع القائم في يومنا الراهن في سوريا وعلى سوريا هو نتيجة لهذا الموروث، ولقدرة تلك القوى على التلاعب بالاختلافات والتنوع الموجود في المجتمع السوري وتحويلها إلى خلافات ونزاعات لن تنتهي.

الأزمة السورية أتت ضمن مشروع “إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير” الذي خططت له قوى الهيمنة العالمية. في حين لم تتمكن احتكارات السلطة والثروة في دولة سوريا الأحادية تحقيق التجانس الأحادي الاثني والعقائدي الذي تطلعت إليه للاستقرار لدى المجتمع والدولة، ولم تفكر في تعديل نهجها عندما كان ضرورياً للوصول إلى الاستقرار ضمن الوطن السوري، فكان ما كان وباتت سورياً مرتعاً للجميع وساحة صراع لكل التوجهات الإقليمية والدولية بأدواتها ووسائلها.

وسط هذه المعمعة والصراع استطاعت مكونات شمال وشرق سوريا التي تشكل نموذجاً مصغراً عن كل سوريا الكبرى، أن تحمي وجودها بإمكانياتها المتواضعة، وتحرر مناطقها من الإرهاب الأسود الذي هو أداة بيد القوى الشريرة التي راهنت على تدمير كل جميل. مثلما استفادت المكونات من الظروف التي تولدت نتيجة الصراع الدائر في البلاد، ووضعت أسساً للعيش المشترك بين جميع الانتماءات في وئام يمكن أن يكون نموذجاً للوطن السوري بالكامل.

ولكن هذا لم يرق لقوى احتكارات السلطة والثروة المحلية والإقليمية، فدخلت في حرب قذرة بوسائل قديمة من قبيل “فرق تسد” في محاولة بث الفتنة بين المكونات، فهي تريد مجتمعاً مشتتاً متناحراً بين الأثنية والعقيدة، مستخدماً بعضها ضد البعض الآخر، ومنها التهديد بالعصا الغليظة والعسكرة، قصفاً واحتلالاً واغتيالا وقتلاً للمدنيين والتهجير. ومنها الحديثة الناعمة من قبيل الحرب النفسية والتعطيش والتجويع، وما الحصار المفروض على مناطقنا من الجهات الأربع سوى وسيلة لإرغامنا على الاستسلام من الجوع والعطش. وكأن كل من يحيط بنا متفق على أن النموذج الذي أسسناه يشكل عقبة في طريق تحقيق أطماعه ومصالحه.

ولا يبقى أمامنا كمكونات شمال وشرق سوريا سوى التلاحم والتكاتف لحماية كرامتنا وحفاظاً على طهارة دماء شهدائنا التي امتزجت دفاعاً عن مجتمعنا. وأن نتقاسم رغيف خبزنا الذي بات محل أطماع جميع قوى احتكارات الثروة من حولنا، وليس من سبيل آخر أمامنا إذا كنا نحلم بمستقبل أفضل لنا ولأجيالنا القادمة.