لكل السوريين

عاصفة طالبان

قيل أن مخططات قوى الهيمنة على الشرق الأوسط بدأت منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، حيث تهيئة الأجواء وتحضير الأدوات اللازمة للتغيير من أحزاب وتنظيمات وشخصيات تدريجياً. والخطوط العريضة التي تم وضعها هي تحقيق سيادة الإسلام المعتدل الذي يتوافق مع متطلبات “الشرق الأوسط الجديد”، وبناء عليه جرى الاهتمام بتنظيم الإخوان المسلمين ودعمه ومساندته للوصول إلى السلطة في بلدان عديدة مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا.

إلا أن ماحدث هو أن الأمور خرجت عن السيطرة نتيجة للمقاومة التي ظهرت من جانب الشعوب والأنظمة القائمة، ودعم بعض الأنظمة الإقليمية لتنظيمات جهادية وتسخيرها لتحقيق أطماعها التاريخية. وعندما توسع داعش فجأة بعد أن استولى على الأسلحة الحديثة بمليارات الدولارات من الجيش العراقي، وأحتل ثلث العراق وسوريا كان المخطط إحلال المعتدلين بدلاً من داعش بعد رسم حدودها، والإعتراف بهذه الدولة بشكل من الأشكال، ولكن مع التطورات تقلصت تطلعات تلك القوى إلى مناطق إدلب لإعلان إمارة إسلامية في يوم من الأيام.

أما في أفغانستان فقد عملت قوى الهيمنة على خلق تيار إسلامي جهادي مقاوم للتدخل السوفياتي بعد عام 1979، وحدث ذلك إلى أن اضطر السوفييت إلى التخلي عنها، ولكن تلك القوى الجهادية نظمت نفسها على شكل “القاعدة” وبدأت تقاوم الغرب بعد هزيمة السوفييت، مما اضطر الغرب إلى البحث عن بديل، فكان إنشاء المدارس الشرعية في جوار أفغانستان وعلى أرضها لتخريج طلاب معتدلين يحققون المهمة المطلوبة، فكان “طالبان” الذي يأخذ اسمه من “الطلاب”، وحظي التنظيم بدعم الغرب “الناتو” إلى أن استولى على السلطة في عام 1995، ولكن التنظيم لم يقطع علاقاته بالقاعدة بل توحدا وبايعت القاعدة طالبان كخلافة إسلامية قائمة على الأرض، وعملا معاً إلى أن حدث الهجوم على البرجين في أيلول 2001 أي في عقر دار الغرب ورموزه الرأسمالية، وعل إثرها حدث الإحتلال المباشر من جانب الناتو، ليس للقضاء على طالبان والإتيان بالديموقراطية والرفاه وتنمية الشعب الأفغاني، وإنما تطهير طالبان وكل أفغانستان من العناصر المتطرفة التي يمكن أن تشكل خطراً على أمن إسرائيل ومصالح الغرب في الشرق الأوسط.

خلال عشرين سنة من الاحتلال والحرب استطاعت الولايات المتحدة (الناتو) تطهير الأجواء من العناصر غير المرغوبة بها إلى درجة ما، وحان وقت الرحيل لأن البقاء يستنفذ إمكانياتها بعد أن حققت أهدافها. وهكذا جاء وقت الانسحاب بعد محادثات مع الطالبان على مدى سنتين في قطر، حيث توافقت الأطراف على خطوط عريضة غير معلنة ومنها عدم السماح للتنظيمات الإرهابية “القاعدة” بالتواجد في بلاد الطالبان وعدم التعاون معها.

ما حدث يشبه صعود داعش، حيث سارعت طالبان على الإستيلاء على جميع الأسلحة الحديثة التي كانت بحوزة الجيش الأفغاني ومنها القوى الجوية، مثلما حدث للجيش العراقي تماماً، وخلال فترة قصيرة ودون مقاومة وصلت طالبان إلى العاصمة كابل مثلما حدث مع داعش تماماً عندما استولى على الموصل والمناطق الأخرى دون مقاومة إلى أن توسع غرباً إلى ديرالزور والرقة تماماً. وإعلان دولتها الإسلامية وتنصيب البغدادي خليفة عليها. وهذا ما يجري تماماً في أفغانستان اليوم أي إعلان الخلافة الإسلامية، ولكن هل ستنجح هذه التجربة الطالبانية بعد أن فشل داعش.

الدلائل والتوقعات تشير إلى أنه سيتم الإعتراف الديبلوماسي بحكم طالبان في أفغانستان من جانب أغلب دول العالم، أي أن التجربة التي فشلت مع داعش تنجح هناك، وأن هذا يجري بدراية وتخطيط من جانب الناتو وقوى الهيمنة. أي عندما ينسحب الناتو يترك خلفه قنبلة جاهزة للإنفجار في حضن جميع الدول المجاورة المناهضة للغرب والناتو، مثل الصين والهند وروسيا الإتحادية (اتحاد الدول المستقلة) وإيران العدو الإستراتيجي للغرب وإسرائيل، وباكستان التي أنشأت طالبان ولا زالت إستخباراتها تتحكم بكل شاردة وواردة لطالبان، أي أن دورها هو نفس الدور الذي تولته تركيا مع داعش من حيث الدعم والمسادة والتمويل في منطقتنا.

لهذا يمكن القول أن مشروع طالبان جرى بتخطيط ودراية وليس هزيمة للولايات المتحدة كما يقال، وسيكون لهذا المشروع مضاعفات كبيرة جداً، وتتوقف على كيفية تعامل دول الجوار مع الخلافة الإسلامية التي تتأسس في أحضانها. ونظراً لخصوصيات وتكوين أفغانستان ربما نشهد صراعات أثنية وعقائدية شرسة ضمن البلاد، ولكل هذه الأثنيات والمجموعات العقائدية إمتدادات ضمن دول الجوار. ولايمكنها تجاهل ما يجري ضمن أفغانستان.

أي لايمكننا أن نرى منتصراً في ذلك الصراع الذي يخطط له في وسط آسيا سوى إحتكارات السلاح وتجار الحروب على حساب دماء الشعوب، ومن دون شك سيكون هناك مضاعفات على منطقة الشرق الأوسط عموماً، ولهذا يمكننا القول بأن التجربة الفاشلة لداعش في منطقتنا تنجح في أفغانستان، وما علينا سوى الحذر لعدم الإنزلاق إلى ذلك الصراع.