لكل السوريين

سياسات موسكو المعطَّلة في شرق الفرات

وفق ترتيب متسلسل يمكن وضع روسيا في المرتبة الرابعة لجهة الحضور في شمال شرقي سوريا بعد التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية وتركيا، ذلك أن تأخّرها في الترتيب يعود إلى جملة عوامل منها، الصدفة المحضة التي جعلت لموسكو موطئ قدم في شرق الفرات إثر تنفيذ جزء من قرار الانسحاب الأميركي، وانتفاء وجود حاضنة شعبية متجذّرة ومتماسكة وعابرة للإثنيات داعمة لسياساتها خلا بعض البؤر المحسوبة على النظام، وأيضاً فشلها في قيادة عملية سياسية جدية في شرق الفرات.

قبيل الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية سرى رأي مفاده أنه بمقدور موسكو الحلول مكان واشنطن وأنها ستتصرّف وفق نسق مشابه لذاك الذي اتبعته في المحافظة على مصالح النظام، أي الحفاظ على مصالح ومكتسبات القوى المحلية وإن في الحدود الدنيا، وأنه بإمكانها دفع الأطراف المحليّة والنظام إلى عملية تفاوض مستدامة تقوم من خلاله بدور الوسيط والضامن، لكن شيء من ذلك لم يتحقّق وتراجع الزخم الشعبي المؤيّد لهذا الرأي، حيث أصّر الروس على صيغ متباينة تحمل معاني إرغام الأطراف المحلية على قبول التنازل إن لم نقل الاستسلام للنظام؛ فمن جهة تستقوي روسيا بالتهديد التركي للمناطق الحدودية، ومن جهة أخرى تضع اللوم المطلق على الإدارة الذاتية وقسد لعدم رضوخهما لمشيئة وإملاءات دمشق القاسية وحلولها العدميّة.

تضعنا الهجمات التركية على بلدة عين عيسى أمام احتمالين فيما خص طبيعة التواجد الروسي في تلك المناطق باعتبارها ضامناً لوقف إطلاق النار: إمّا أن روسيا غير قادرة على لعب دور الضامن ووقف الأعمال العدائية التركية، أو أنها تسعى إلى ممارسة الضغوط على قسد عبر إفساح المجال للتركي لممارسة الاعتداءات المتكرّرة واستنزاف قسد والنسيج الاجتماعي الحاضن وبالتالي إدخال قسد في مفاضلة تسليم بعض المناطق للنظام ورفع أعلامه أو استمرار الاعتداءات على ما تحمله من وحشية وتهديد لحياة المدنيين، ويبقى الاحتمال الثاني أقرب إلى الواقع تبعاً لصيغة أسبق اعتمدتها موسكو في التعامل مع ملف عفرين 2018.

عين عيسى التي تقع خارج مرمى الاتفاقين، الروسي التركي والأميركي التركي، تبعد عن الشريط الحدودي قرابة 37 كم جنوباً، أي أنها أبعد من الـ 32 كم التي حدّدتها الاتفاقات لانسحاب قسد، بذا تقع مسؤولية الحفاظ على الهدنة على عاتق الولايات المتحدة وبدرجة أكبر على روسيا باعتبارها توّلت مهمة تسيير الدوريات المشتركة وإقامة نقاط مراقبة، وإن كان واقع الحال يشير إلى هشاشة الهدنة في جبهات تل تمر وأبور راسين والآن عين عيسى.

تستفيد روسيا من العقلية التركية التي تعتبر الـ 32 كم بداية لحساب 32 كم بعدها، أي أن تركيا اعتبرت ضمناً هذه المناطق المحتلة أو التي انسحبت منها قسد مناطق تركيّة وبالتالي يجري الحساب انطلاقاً من آخر كيلومتر احتلته. هذا التعبير قد يبدو ساخراً لكن واقع الحال في عين عيسى التي تتعرّض إلى هجمات صاروخية واعتداءات من تركيا ومرتزقتها يدلّل على صوابية تحليل التفكير التركي هذا فيما خص الهدنة واحترام الاتفاقات التي أبرمتها مع واشنطن وموسكو، حيث لا شيء يوقف الهيمنة التركية وتعطّشها لقضم أراضي شرق الفرات.

بشيء من الحذر يمكن إدراج الاعتداءات التركية الأخيرة، وعلى مرأى من روسيا، تحت بند استباق الإدارة الأميركية الجديدة التي قد تفضّل خيار الإبقاء على الأوضاع في شمال شرقي سوريا، ويمكن أيضاً اعتبار سياسة إطلاق يد تركيا تكتيكاً روسياً يهدف إلى توسيع شقّة الخلاف بين واشنطن وأنقرة، ولعل الأخيرة تبدو مدفوعة على الدوام بإيديولوجيتها وهوسها في الهيمنة والتوسّع، الأمر الذي يسهّل تنفيذ التكتيكات الروسيّة هذه.

في باب ما يمكن وصف سياسات موسكو بأنها معطَّلة نوعاً ما، إذ لا تستطيع تنفيذ سياساتها في شرق الفرات بالقوّة العارية حيث أن هناك تعطيل لقدراتها العسكرية المهولة بفعل التواجد الأميركي، كما لا تستطيع أن تتخيّل  أو تجترح حلّاً سياسيّاً في شرق الفرات لأن الحلول ستُخرج من يدها ورقة التفاهمات مع تركيا الممتدة على طول مناطق تواجد الدولتين في سوريا وخارجها، بذلك تقف روسيا في مكان آمن لكنه عديم الفاعلية، فهو آمن لجهة عدم تكبّدها خسائر ماديّة وبشرية، وهو عديم الفاعلية لأنها لا تتصرّف كقوة دولية تستطيع إحلال السلام والحفاظ على عهودها واتفاقاتها.

ثمة نفور شعبي متزايد من طبيعة السياسة الروسية قليلة الحساسية تجاه حقوق مواطني شرق الفرات ناهيك عن تطلعاتهم، بل إنّ موسكو لم تعد تملك سوى قول شيئين: على قسد والإدارة أن يرضخا للنظام فيما يشبه الاستسلام غير المشروط، الشيء الآخر أنه على السكان المحليين اختيار النظام أو تركيا في ظل انعدام خيار ثالث مطروح، وعلى هذا النحو يستطيع واحدنا تفسير رشق الأطفال والنسوة العربات الروسية بالحجارة في منطقة تبحث عن صديق يدفع عنها شرور السياسات التركية مهما بدا هذا الصديق خشناً أو قليل الحساسية تجاه مخاوفهم الوجودية.

ربما آن الأوان لتبحث موسكو في حدود معيّنة عن سياسة مختلفة وأكثر اتساقاً مع مصالح مواطني شرق الفرات، ذلك أن قوة الحضور والدور في سوريا لا يعنيان بالضرورة محق جميع الأطراف لأجل تعويم النظام، وعليه فإنّ إيجاد لغة مختلفة قد يخرج موسكو من حالة العطالة إلى الفاعلية وبالتالي إنتاج حلول سياسية أكثر إنصافاً.

شورش درويش