حاوره/ مجد محمد
نوّه غفير اللطس على أنه لطالما كانت سوريا نموذجاً لنظام حكم مركزي، حيث تتولى الحكومة المركزية في دمشق معظم القرارات السيادية والاقتصادية، فالآن ستكون اللامركزية حلاً يساهم في تحقيق الاستقرار وتوزيع السلطة بشكل أكثر عدلاً.
إن سوريا ما بعد الثامن من كانون الأول عام ٢٠٢٤ ليست كما قبلها، فبعد هروب بشار الأسد وسقوط حزب البعث العربي الاشتراكي، كمنظومة وكأيديولوجيا كانت تقود سوريا منذ الثامن من آذار عام ١٩٦٣ بشكلها الفعلي، شعر السوريون بوضع جديد يقود المجتمع المدني في سوريا من دون الأسد وحزب البعث، وبالتالي كانت تركة الفوضى التي تركها خلفه من دمار للبنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية ثقيلة جداً عليهم، وتتوضّح معالمها خلال الأشهر الستة الماضية بشكل جيد، ولكن بالرغم من كمية الفوضى والدمار الحاصل والمعاش حالياً يمكننا القول إن نصف المشكلة أو المعضلة السورية قد تم حلها مع رحيل النظام السابق، والذي كان قد أوصل الحلول الممكنة إلى حدود المستحيل، وذلك بسبب تعنته وتمسكه بالمحور الإقليمي الذي اختاره، من خلال تخليه عن الحضن والمحور العربي السني لصالح المحور الإقليمي الشيعي المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى جانب المعسكر الشيوعي السابق المتمثل بالاتحاد السوفييتي.
وفي إطار الحديث عن المركزية واللامركزية، عقدت صحيفتنا السوري حواراً مطولاً مع الأستاذ غفير اللطس، عضو الحزب التقدمي الوطني، ودار الحوار التالي:
مع انطلاق ربيع الشعوب، السوريون خرجوا وأكدوا على الوحدة الوطنية في جميع الجغرافيا السورية.. هل بات الآن ذلك صعباً؟
مع نهاية عام ٢٠١٠ وانطلاق ربيع الشعوب في الشمال الأفريقي الذي اندلعت شرارته من تونس “البوعزيزي” وتمدد إلى كل من جمهورية مصر وليبيا، ثم تحول أيضاً إلى الشرق الأوسط في كل من اليمن، وإلى سوريا التي بدأت التحركات الشعبية فيها بصدور عارية تماماً، ولم تكن مطالبها تتعدى فسحة من الحرية السياسية وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام، ومن الأمور اللافتة منذ بداية الثورة السورية أن السوريين، بجميع طوائفهم ومذاهبهم وحتى قومياتهم، متفقون ولو بشكل غير مدروس أو منظم على أهمية الوحدة الوطنية فيما بينهم، وعلى خلق نوع من المواطنة المتساوية ما بين الأفراد الذين يعيشون على هذه الأرض، ولكن الرد القمعي الأمني المتشدّد والمبالغ فيه من الطرف الأمني المتحكم أساساً في مفاصل الدولة السورية كان قاسياً جداً، وبدل أن يكون ذلك الرد رادعًا للمطالبين فقد ولد ردة فعل عنيفة معاكسة، وبالتالي أدت إلى عسكرة المطالب المدنية، وتحولت الساحة السورية بشكل عام إلى ساحة صراع مفتوح بين الأطراف الدينية المتشددة والقومية المتزمتة والعقائدية والأيديولوجية، وبالتأكيد إن جميع من يطالب باللامركزية كنظام جديد لسوريا المستقبل لم يطالب بتقسيم سوريا على عكس ما يتم تصديره، بل ستبقى سوريا موحدة في إطار لا مركزي.
بقاء بشار الأسد في الحكم كان اتفاقاً دولياً، وإسقاطه أيضاً اتفاق دولي.. ماذا تقول بذلك؟
نعم، من الواضح تماماً أن بقاء بشار الأسد في سدة الحكم طوال الأربعة عشر عاماً من عمر الحرب كان اتفاقاً دولياً وإقليمياً، ربما ليس بالشكل والبروتوكول الرسمي ولكن بشكل مبطّن، وما التحركات التي قامت بها ما باتت تعرف بغرفة إدارة العمليات العسكرية التي انطلقت من محافظة إدلب، هيئة تحرير الشام، إلا تحريكاً خارجياً بعد تهيئة الظروف والشروط الإقليمية والدولية لتقبّل الوضع الجديد، الوضع الجديد ليس فقط على مستوى سوريا بل على مستوى الشرق الأوسط الذي لم يعد كما كان قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام ٢٠٢٣، والعملية الخاطفة التي قامت بها حركة حماس الفلسطينية تجاه إسرائيل وما تبعها من موجة عنف مضادة تجاه المحور الإيراني والأذرع الإيرانية في المنطقة.
لماذا الآن؟ ولماذا هذه السرعة في الإنجاز رغم أن الحرب السورية قد أُطيلت كل هذه الفترة السابقة؟
لأسباب كثيرة، ومنها مماطلة بشار الأسد في الإصلاحات التي وعد بها في الفترة الأخيرة بجامعة الدول العربية، ووضع كامل مصالحه الشخصية والسورية في السلة الإيرانية على حساب العرب، وكنوع من التحدي غير المباشر لهم، وكذلك تحدي الغرب في مواجهة العقوبات الاقتصادية، وذلك من خلال انتشار معامل (الكبتاغون) على أراضيها، وإزعاج دول الجوار والخليج بتصريف إنتاجها في أسواق تلك الدول، وأيضاً التعنت في عملية التطبيع مع إسرائيل، وبالتالي ضرورة خلق البديل وفسح المجال بعد ذلك للدول العربية الأخرى بالتطبيع بأريحية عندما تسنح الفرصة المناسبة، والسيطرة على الأجواء السورية لمنع أي قوة قد تفاجئ إسرائيل أو تعيق أهدافها الاستراتيجية تجاه إيران.
في ظل ما تحدثنا به، كيف ترى الحالة السياسية في سوريا في ظل التجاذبات بين المركزية واللامركزية، وما عوامل الصراع بين الفئتين؟
الحالة السياسية في سوريا اليوم معقدة للغاية، وتمثل تحدياً حقيقياً بسبب التجاذبات بين المركزية واللامركزية، بالإضافة إلى التعددية الثقافية والسياسية التي تشهدها البلاد في ظل الأوضاع الحالية. فسوريا اعتمدت خلال العقود الماضية على النظام المركزي، حيث كانت السلطة تتركز بشكل كبير في يد الحكومة المركزية، خاصة في العواصم، لكن بعد سنوات من النزاع والصراع الداخلي، ظهرت مناطق قوية مثل مناطق شمال وشرق سوريا تسعى إلى تعزيز قدراتها المحلية، سواء من خلال النظام الفيدرالي أو اللامركزي، وهذا أدى إلى تصاعد التوترات. وسوريا تتمتع بتنوع كبير من حيث الأعراق والطوائف (السنة، العلويين، الأكراد، المسيحيين بكافة مكوناتهم، وغيرها)، وهذا يعقد فكرة الحلول السياسية في البلاد. اللامركزية قد تعتبر خطوة نحو منح الأقليات والمناطق الهامشية المزيد من الحقوق والحكم الذاتي. النظام المركزي في سوريا أدى إلى تركيز الموارد الاقتصادية في يد الحكومة، مما جعل المناطق الأخرى تشعر بالتهميش. اللامركزية قد تكون حلاً لهذه المشكلة من خلال توزيع الموارد بشكل أكثر عدلاً بين المناطق. فالحالة السياسية في سوريا اليوم تشير إلى أن هناك حاجة ملحة لتحقيق اللامركزية، بحيث يمكن تلبية مطالب الفئات المختلفة مع الحفاظ على وحدة البلاد.
هل تعتقد أن تطبيق اللامركزية في سوريا سيسهم في تعزيز الاستقرار السياسي أم سيزيد من تعقيدات الوضع؟
بالتأكيد، الحل الأفضل لسوريا هو تطبيق اللامركزية في الحكم، لأن ذلك سيساهم في تحقيق العدالة في توزيع السلطة والموارد. فاللامركزية قد تتيح للمناطق التي عانت من التهميش طيلة العقود الماضية، مثل مناطق شمال وشرق سوريا أو بعض المناطق الريفية، الفرصة لتدير شؤونها المحلية. هذه الخطوة قد تساعد في تقليص التوترات الطائفية والعرقية، حيث ستمكن الجماعات المختلفة من تحديد أولوياتها المحلية. وكذلك اللامركزية قد تساهم في تقديم حلول سريعة وفعالة لمشاكل المناطق المحلية، مثل البنية التحتية، التعليم، والصحة، بما أن السلطات المحلية ستكون أقرب إلى الناس، وقد تكون أكثر قدرة على الاستجابة للاحتياجات المحلية، مما يساهم في استقرار أكثر في بعض المناطق. وأيضًا عندما يتم توزيع السلطة والموارد على مستوى محلي، يمكن أن يحفز ذلك التنمية الاقتصادية في المناطق التي كانت مهملة سابقًا. مناطق مثل شمال شرق سوريا يمكن أن تستفيد بشكل كبير من السياسات المحلية التي تتماشى مع احتياجاتها الاقتصادية. وإذا تم تطبيق اللامركزية بطريقة شفافة وعادلة، قد تكون خطوة نحو المصالحة الوطنية، حيث أن ذلك قد يساعد في بناء الثقة بين الأطراف المختلفة التي تشعر بأن حقوقها قد تم تجاهلها في النظام المركزي السابق.
ختاماً، هل ترى أن هناك تجارب دولية ناجحة في تطبيق اللامركزية يمكن أن تشكل نموذجًا لسوريا؟
نعم، هناك تجارب دولية عديدة في تطبيق اللامركزية يمكن أن تكون مصدر إلهام لسوريا إذا قررت اتخاذ خطوات نحو نظام لامركزي، لكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن كل تجربة لها سياقاتها الخاصة، ولا يمكن تطبيق نفس النموذج بشكل حرفي في سوريا. مثلاً إسبانيا تقدّم نموذجاً جيداً في تطبيق اللامركزية في سياق تعددي وتاريخي معقد، بعد فترة من الدكتاتورية، قامت إسبانيا بتطبيق النظام اللامركزي من خلال النظام الفيدرالي شبه اللامركزي، مما سمح لكل منطقة ذات خصوصية ثقافية أو لغوية (مثل كتالونيا، الباسك، وغاليسيا) بالحكم الذاتي في العديد من القضايا مثل التعليم والصحة والشرطة، وهي تجربة ناجحة جداً نراها الآن بأم أعيننا، وكذلك سويسرا هي دولة فيدرالية ذات نظام لامركزي.