لكل السوريين

في الرقة.. غياب معايير اختيار رؤساء الأندية!!

عبد الكريم البليخ

في مدنٍ مثل الرقة، لا تُقاس الحياة بعدد الشوارع التي أُعيد ترميمها، ولا بارتفاع الأبراج الأسمنتية التي تعلن عودتها للحياة، بل تُقاس بوهج الأرواح التي تتنفس من خلالها. ومن بين تلك الأرواح، لطالما كانت الأندية الرياضية مرآةً صادقة لمزاج المدينة، نبضاً يعكس انتصاراتها وانكساراتها، في الميدان كما في تفاصيل يومها العادي.

لكن هذا النبض خفت، خنقته أيادٍ لا تجيد الإصغاء لنداء الرياضة، ولا تدرك أن الأندية ليست سوقاً للاستثمار الاجتماعي، ولا مسرحاً لتجميل صورة “الأقوياء” بأموالهم.

تواجه الأندية الرياضية في سوريا أزمة حقيقية في آلية اختيار رؤسائها، إذ بات من المعتاد أن يتم تعيين أشخاص بناءً على قدرتهم المالية ودعمهم المادي للنادي، دون النظر إلى كفاءتهم الرياضية أو خبراتهم الإدارية. فيتم منحهم هذا المنصب لمجرد أنهم “داعمون”، حتى وإن كانوا يجهلون أبجديات الرياضة، ولم يمارسوا يوماً أي لعبة رياضية.

هذه الظاهرة باتت تتكرر بشكل يثير القلق، إذ أصبحت الثقافة السائدة تعتمد على مبدأ “المال أولاً”، دون مراعاة لخصوصية العمل الرياضي الذي يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة الفرق، واللاعبين، واحتياجات النادي.

لم يعد مستغرباً أن يتولى رئاسة الأندية من لا يعرفُ الفرق بين تمريرة صحيحة وضربة خاطئة. من لم تطأ قدماه ملعباً، ولا يميّز بين تاريخ النادي وأرصدة المصارف. فالمنصب يُمنح بناءً على السخاء المادي، لا على السيرة الرياضية، وكأن الأندية باتت “مشاريع وجاهة” تُزيّن سيرة أصحاب النفوذ.

هذا الخلل البنيوي لم يكن دون ثمن. أندية كانت يوماً منارات تخرّج الأبطال، أضحت اليوم تشارك في البطولات كـ “ديكور”، تملأ الفراغ بلا طموح، بلا خطة، بلا رؤية. النتائج الهزيلة ليست سوى انعكاس صادق لهذا الاستسهال المقيت في اختيار القيادات.

في تلك الإدارات المترهلة، لم يعد الحلم الرياضي يجد له مكاناً. اجتهد اللاعبون في الملعب، لكنهم اصطدموا بجدران من اللامبالاة والقرارات العشوائية. فكيف لأندية بلا بوصلة أن تصنع مجداً؟ كيف لفريق يقوده “مُستثمر” في اسمه الاجتماعي أن يشحذ همم اللاعبين؟

رياضة الأندية ليست ترفاً. هي ذاكرة جمعية، مرآة لروح المجتمع وتماسكه. حين تنهار هذه المنظومة، يتسرب اليأس إلى أوصال الشباب. النادي كان ذات يوم أكثر من مجرد فريق؛ كان مدرسة للصبر، للتنافس النبيل، للصداقة العابرة للاختلافات. أما اليوم، فصار ميداناً لصراعات صغيرة على موائد المصالح.

ما يحدث في الأندية هو انعكاس صريح لتحولات المجتمع ذاته. حين يغيب معيار الكفاءة في الرياضة، تأكد أن الخلل متجذر في أماكن أعمق. إنها أزمة قيم، حيث يعلو صوت النفوذ على صوت الموهبة، وحيث تُختزل المعايير إلى أصفار في الحسابات البنكية.

ما جرى في الرقة مؤخراً ليس إلا مثالاً صغيراً على المشهد الأوسع. القرار رقم 491 الصادر عن وزارة الرياضة والشباب بتاريخ 7 أيار 2025، والذي جاء بناءً على توصيات مديرية الرياضة والشباب بالرقة رقم 9 تاريخ 30/4/2025، أعاد طرح السؤال الحارق: من يحق له أن يكون على رأس إدارة الأندية؟

قرار كهذا لا يجب أن يُقرأ كإجراء إداري عابر، بل كمرآة تعكس عمق الأزمة: هل نريد قيادات قادرة على النهوض بالنادي، أم مجرد أسماء تُعلّق على لافتات الشكر في صالات الاجتماعات؟

رغم هذا المشهد القاتم، يبقى الأمل قائماً. سوريا لا تزال تنبض بالمواهب، بالمجتهدين الذين يحلمون بتمثيل أنديتهم وأوطانهم بجدارة. هؤلاء يحتاجون فقط إلى إدارة تعرف قيمتهم، وتملك شغفاً يوازي عطاءهم.

إن طريق الإصلاح يبدأ من إعادة النظر في فلسفة الاختيار. من القاعدة الصلبة التي تضع الكفاءة والخبرة قبل أي اعتبار آخر. فالأندية لا تقوم على المال وحده، بل على رؤية تُشعل الحماسة في قلوب اللاعبين، وتعيد الجماهير إلى مدرجات عشقها الأول.

إن أردنا للأندية السورية أن تعود إلى سابق عهدها، علينا أن نتجاوز مرحلة “رئاسة الواجهة”. الرئاسة الحقيقية تعني القيادة، التخطيط، بناء فريق عمل متكامل، يعرف كيف يحوّل الشغف إلى إنجاز.

هي لحظة مراجعة شاملة. لحظة نعيد فيها الاعتبار لجوهر الرياضة كرسالة، لا كمنصب شرفي. نحتاج إلى إدارات تتنفس الرياضة، تعيش تفاصيلها، وتدرك أن النادي ليس سلماً اجتماعياً، بل حاضنة للأحلام.

في نهاية المطاف، أزمة الأندية هي جزء من أزمة أوسع تتعلق بكيفية إدارة الشأن العام في مجتمع يعاني من التشوهات ذاتها: غياب الكفاءة، هيمنة المصالح، وتفشي ثقافة التعيين بالواسطة.

إصلاح الرياضة قد يبدو للبعض أولوية ثانوية في زمن الأزمات الكبرى، لكنه في الحقيقة رافعة ضرورية لبناء مجتمع متوازن، يؤمن بالعمل الجاد، ويكرّم المبدعين.

إنها ليست مجرد تساؤلات عابرة. بل دعوة ملحّة للعودة إلى الجوهر. فالرياضة ليست رفاهية. هي مختبر حقيقي لإعادة إنتاج قيم المجتمع. وحين تعود الأندية إلى أيدي من يستحقها، سنرى انعكاس ذلك في كل تفاصيل الحياة العامة.

في الرقة، كما في باقي مدن سوريا، الأمل لا يموت. لكنه يحتاج إلى من يرعاه، إلى من يؤمن أن الأندية ليست شركات استثمارية، بل مساحات لتشكيل الإنسان.

إذا أردنا رياضة أندية قوية ومنتجة، علينا أن نتجاوز مرحلة “رئاسة الواجهة” إلى مرحلة “الإدارة الفعلية”، التي تعتمد على الكفاءة والخبرة قبل أي شيء آخر.

فهل نُحسن الاختيار أخيراً؟ أم سنبقى نطارد الألقاب بأموال لا تصنع مجداً؟