في خضم الأزمات التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين، والتي تمثلت في حروب دامية وصراعات قومية كارثية، تبرز الديمقراطية كحل حضاري شامل، لا يقتصر على كونها نظاماً سياسياً، بل بوصفها إطاراً أخلاقياً وثقافياً ومجتمعياً يتجاوز الأطر الضيقة التي فرضتها الدولة القومية والحداثة الرأسمالية.
فالديمقراطية، بحسب المفهوم العصري لها، هي مصطلح ينفي عن نفسه القيود الفكرية التي رسمتها الدولة القومية لنفسها، وتلك التي أُلبستها طابع القداسة باعتبارها أنظمة حياة ثابتة لا تقبل التغيير. فهي تعلو على تلك الادعاءات التي تصر على عرض مفاهيمها على أنها حقائق مطلقة، في حين أن الواقع والوقائع أثبتت هشاشتها ونتائجها الكارثية في بعض الأحيان.
تقوم الديمقراطية على ضمان حرية التعبير والمشاركة السياسية لكل فرد في المجتمع، ما يفتح الباب أمام الابتكار والتطور. وهي تمنح المواطنين الحق في صنع القرارات المصيرية، من خلال عمليات تصويت وانتخاب شفافة، وتعد بذلك حجر الأساس لتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهما من أسمى القيم التي تسعى البشرية لبلوغها.
وقد فرضت التغيرات السياسية والاجتماعية خلال العصر الحديث، لا سيما في القرنين الماضيين، على المجتمعات إعادة النظر في الأنظمة التي حكمتها لعقود. فالدولة القومية، بما تحمله من طابع إقصائي، رسّخت التمييز على أسس عرقية أو لغوية أو دينية، وأسهمت في تعميق الانقسامات، وهو ما نراه اليوم في الكثير من النزاعات التي خلفتها، والتي لم تستطع تقديم حلول جذرية للمشاكل المتراكمة منذ العصور السومرية وحتى الحاضر.
في المقابل، يطرح نموذج “الأمة الديمقراطية” نفسه كبديل يركز على القيم الإنسانية المشتركة ويُعيد بناء العلاقة بين الهوية الوطنية والمشاركة السياسية والاجتماعية. هذا النموذج لا يعتمد على التمايزات العرقية أو الثقافية الضيقة، بل على أسس المشاركة، والتعايش، والحوار، والعدالة.
ومن المهم الإشارة إلى أن المجتمعات لم تكن بحاجة في بنيتها الأصلية إلى فروقات طبقية أو تمييز على أساس الجنس أو اللون أو الأصل العرقي. فقد كانت، ومنذ بداياتها في صورها القبلية والعشائرية، تستند إلى علاقات اجتماعية مرنة، تتبلور من خلالها اللغة والثقافة المشتركة، وهو ما يُمكن اعتباره نواة لفكرة التعايش السلمي.
في هذا السياق، تلعب التعددية الثقافية دوراً محورياً في تعزيز مفهوم الديمقراطية. فهي تساهم في تخفيف حدة النزاعات الناتجة عن التمييز والهيمنة، وتفتح آفاقاً لتبادل الأفكار والإبداع في مختلف المجالات، إذ تدفع المجتمعات نحو التلاقي الثقافي بدلاً من الصدام، وتبني نموذجاً للحوكمة لا يقوم على الإقصاء، بل على الشراكة.
الديمقراطية إذن، تسعى إلى تجاوز أزمات الدولة القومية والهيمنة الرأسمالية من خلال تقديم بديل يتبنى القيم الأخلاقية، ويُعيد الاعتبار للفرد كعنصر فاعل في صياغة مستقبله. إنها تتيح لكل شخص، بغض النظر عن خلفيته، الحق في المساهمة في اتخاذ القرار، ما يُقلل من فرص الاستبداد، ويُعزز من فرص الحلول التوافقية.
ولعل أبرز ما يميز الديمقراطية الحديثة هو قدرتها على الاعتراف بالسيادة الشعبية ضمن إطار قانوني عادل، ما يمنح الشعوب القدرة على التعبير عن إرادتها بحرية. وتستند في جوهرها إلى مبدأ “حكم الشعب نفسه بنفسه”، أو “حكم الأغلبية” بناءً على نتائج الانتخابات، التي تقوم على مبدأ الشفافية والمحاسبة.
وتوفر الديمقراطية أرضية قوية لحماية الحريات الفردية، وتعدد الآراء، ما يسهم في خلق بيئة سياسية واجتماعية أكثر استقراراً، ويحول دون هيمنة طرف على الآخر. وبذلك، يصبح الشعب قادراً على تنظيم نفسه ذاتياً، واتخاذ قرارات تنبع من مصلحته العامة، لا من مصالح فئة ضيقة.
كما تتيح الديمقراطية وسائل مباشرة للمشاركة السياسية، من خلال الاستفتاءات والمبادرات الشعبية، التي تعزز من شعور المواطن بالمسؤولية وتمنحه دوراً مباشراً في تحديد السياسات العامة.
من ناحية أخرى، يتلاقى المفهوم الديمقراطي في عدة جوانب مع ما يدعو إليه الإسلام من عدالة ومساواة، إذ يشير كثير من المفكرين إلى أن الإسلام أيضاً يمنح العامة حق المشاركة في القرار، ويحث على الشورى بين الحاكم والمحكوم. فحين تتوافق المبادئ الديمقراطية مع القيم المجتمعية، وتُقبل من قبل شيوخ العشائر والقيادات المحلية والشعب، فإنها تصبح أداة شرعية لتنظيم الحياة العامة.
ختاماً، إن الديمقراطية، بما تحمله من مفاهيم العدالة والمساواة والتعددية، هي السبيل الأمثل لبناء مجتمعات متماسكة، تتجاوز الأطر التقليدية للدولة القومية، وتُرسّخ لقيم الحوار والتعايش والاحترام المتبادل. إنها ليست مجرد نظام للحكم، بل فلسفة حياة، قادرة على حل النزاعات، وتحقيق السلام، وتأسيس مستقبل مشترك تتساوى فيه الحقوق وتتوحد فيه الإرادات.