بيوت القهوة عرفت في طرطوس الساحلية منذ أكثر من ثلاثة قرون، استنادا الى التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، وعندما تتحدث عن المقاهي في طرطوس تعود بنا الذاكرة الى عدة سنين للوراء ذكراها كلها جميلة، ببدائيتها وقدمها ثم تطورها، لقد كانت حياة ماضية ودافئة نتذكرها ونفتقدها، فالمقاهي، ونتحدث هنا عن المقاهي الثقافية، أحد أهم الفضاءات العامة التي صودرت من الطر طوسيين وضيوفهم بطريقة أو بأخرى، كان يجتمع في مقاهي طرطوس وحاناتها، مزيج وخليط عجيب من المثقفين والفنانين والكتاب والمسرحيين والسينمائيين والسياسيين والموسيقيين، والناس العاديين، من مختلف أطياف المجتمع الطرطوسي وإثنياته، ومن ضيوفه المتواجدين في البلدان المجاورة أو البعيدة أتت بهم ظروف مختلفة في فترات تاريخية محددة وأبقاهم حبهم لطرطوس وشاطئها وبحرها، كانت في قمة ازدهارها منذ أوائل الستينيات، لكن ولأسباب مختلفة ونتيجة انسحاب معظم الناس من الحياة العامة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، تلخص بشكل واضح تغير مسارها وطبيعة البشر الحاضرين في المقاهي، إضافة الى سبب مهم هو الحوادث الأمنية، والتضييق على المنتديات وعلى الفضاء العام المدني، والتضييق السياسي على حريات الناس، ثم المد الإسلامي المحافظ على مختلف فئات المجتمع الإسلامي الموجودة في البيئة الطرطوسية، وتم بيع وشراء معظم هذه المقاهي وتحويلها إلى أنشطة آخر، واضيف الى ذلك تدهور الظروف الاقتصادية والحياة المعيشية، وسفر عدد كبير من مرتاديها إلى الخارج. ورغم قدم ظاهرة المقاهي في طرطوس إلا أن المقاهي التي كانت تقدم نشاطا ثقافيا وفنيا، وكانت نقطة لقاء للمثقفين وللفنانين، لكن معظم هذه المقاهي أُغلق أو تغير طابعه وتحول إلى محال تجارية.
السيد محمود أستاذ التاريخ المتقاعد قال: كنا مجموعة من المثقفين والفنانين نلتقي يوميا وصيفا وشتاء، وكان المقهى مكان لقاء للمبدعين والمثقفين، وبقي حتى اواخر التسعينيات لكنه بعد سنتين تم بيعه، وقد كان في المقهى مكتبة مهمة، ومطعم يقدم أطعمة جيدة لمرتاديه، وفيه بحرة صغيرة فيها سمك، كان معظم المثقفين في طرطوس من كتاب وفنانين وسياسيين ومثقفين يسهرون في المقهى، وكان يقام معارض لوحات تشكيلية لعديد من الفنانات والفنانين وسهرات أدبية وشعرية، وكان الهدف من المقهى هو لقاء المثقفين، لكن رواد المقهى أنفسهم لا يتغيرون، معظمهم من أهل المدينة، وهم يعرفون بعضهم البعض بالأسماء ويتسامرون بهدوء، ونادرا ما كنت تسمع قهقهة عالية في المقهى، وكان مقهى ارواد يستقبل محمد عمران، فايز خضور، وعلي الجندي، وفاتح المدرس، وممدوح عدوان، وزكريا تامر، ونزيه أبو عفش، وفايز خضور، وسعد يكن، ودعد حداد، وليلى نصير، في المقهى نفسه، هناك منضدة مميزة بان عليها لعبة طاولة الزهر، وهي طاولة صاخبة يدب الصياح فوقها ما أن يخسر أحدهم اللعبة، وفي المقهى نفسه، نشرات الأخبار السياسية والاجتماعية والثقافية ودوائر النميمة والمكائد، ويضج الحاضرون بالصخب، وأن الأشخاص الموجودين في المكان هم من يخلقون الحالة في هذا الفضاء، وفي المكتبة الجميلة وكان يمكن للشخص أن يجلس ويقرأ ويكتب مقاله ثم يدخل إلى الصالون ليجلس مع الآخرين ويتداول معهم أطراف الحديث، مكان جميل جدا، وجدرانه كانت معرض لوحات لأهم الفنانين ، كانت هناك متعة بصرية في المكان.
السيد أنطوان وهو طبيب متقاعد ومثقف وكاتب قصة قديم، أضاف: كنا في نادي العمال على الشاطئ، وموجود منذ أيام الاحتلال الفرنسي، وكان هناك بار وهو أقرب للشعبي، كما أن العديد من المثقفين كانوا يجتمعون فيه، وممثلين وفنانين، والخريجين الأوائل من المعهد العالي للفنون المسرحية جميعهم، وتمت اقامة ورشات عمل ومعارض لأطفال ، إقامة حفلات موسيقية ومحاضرات علمية، وتم إقامة بمبادرة عديدة منها ، حيث يقوم أشخاص بدفع ثمن فنجان قهوة أو وجبة طعام، لشخص غير قادر على ذلك، خصوصا طلاب الجامعات، ومنها بطاقات دعوة تقدم سهرة كهدية لأصدقاء عبر الكنيسة، أو غيرها، لتتمكن بعض الأسر من السهر خارج المنزل في الظروف الصعبة.
اليوم تنتشر مقاهي الدراسة، وهي أماكن معدة للطلاب تحديدا بسبب الظروف القاسية للأسر، في ظل انقطاع الكهرباء الطويل وانقطاع الانترنت، والبرد في الشتاء والحر في الصيف، لأن المحروقات غير متوافرة في طرطوس، يلجأ الطلاب إلى هذه الأماكن التي توفر الكهرباء والتدفئة والانترنت، وبدأت تنتشر في دمشق بمبادرات اجتماعية أو كنسية، مقابل أجور رمزية للدخول.
ما زالت أجواء المقاهي القديمة، بحيويتها ودفئها وقيمتها الاجتماعية والفكرية وقاماتها، فإذا كان الأشخاص هم من يصنعون فضاء المكان بتفاعلهم معه ومع بعضهم البعض، ويجب ان تأخذ دورها القديم كمنصات للتنوير والثقافة وللدفء الاجتماعي.