لكل السوريين

اقرأ .. وانسى ما قرأت

عبد الكريم البليخ

شجّعني أبي وأمي على الدراسة، وكان أبي يرغب في أن أدخل كلية الطب، والسفر إلى إحدى الدول الأجنبية لدراسته، وكنت منذ الطفولة أكره الأطباء، وأحبّ الفن والكتابة، لكني أطعتُ أبي وأمي في دراسة الحقوق، لأجل الدراسة وليس حبّاً بها، وإن كنت أحبّ دراسة علم الاجتماع، ليس خوفاً من العقاب.

فلم يكن في بيتنا خوف، كنت أحبّهما وأحترمهما، أشعر بحبّهما واحترامهما لشطحات طفولتي، بينما كنتُ أرى الآباء والأمهات في البيوت الأخرى يسخرون من عقول أطفالهم، أغلب البيوت التي أدخلها، في الزيارات لعائلة أمي بالرَّقة، تحتوي على غرفة هامّة، لا تفتح إلا للزوّار، يُسمّونها “الصالون”، بها مقاعد ضخمة قماشها من الحرير اللامع، مساندها عالية، حوافها ذهبية. البيت مليء بالأثاث الثمين، ليس فيه مكتبة، أو رفّ واحد يحملُ الكتب. بيوت الطبقة المتعلّمة العليا لم تكن تمارس القراءة، أما بيوت عائلة أبي بالقرية، فكانت أغلبها للفلاحين الفقراء الذين لم يتعلموا القراءة أو الكتابة.

أبي وأمي نال كل منهما قسطاً من التعليم والثقافة، فتحت عيني على مكتبة بسيطة في بيتنا، تحمل رفوف الكتب بالعربية، ثم أضفت الكتب بالإنجليزية، بعد أن كبرت وتعددت دراساتي في الأدب والفلسفة والتاريخ، وغيرها من فروع المعرفة.

قرأت الأدب والشعر العربي القديم والحديث في مكتبة أبي المتواضعة الذي كان يحرص على اقتناء الكتب وأخبار الناس والعشائر، ومن أهم ما كان يقرأ القرآن الكريم بصورة دائمة، وفي أغلب الأوقات، وكان يقول: لا ينفصل القديم عن الحديث، فالماضي والحاضر والمستقبل جسد واحد لا يتمزّق، تعرّفت على أفكار الجاحظ، والمعري، والخنساء، وبشار ابن برد، والمتنبي، وابن سينا، وابن رشد، والمنفلوطي، والعقاد، وطه حسين، وجلال أمين، وعبد السلام العجيلي، ومحمد رجاء النقاش، وأحمد بهاء الدين، ونجيب محفوظ، وغيرهم.

ويقول أبي: اقرأ أكثر مما تسمع، اقرأ وانسى ما قرأت، لا تضيع الأشياء المهمّة رغم النسيان.

الكتابة تجربة شخصية، اكتب تجربتك، مشاعرك، أفكارك، وإن بدت لك تافهة لا تستحق الكتابة، كل تجربة تستحق الكتابة لأي عاقل أو مجنون، وقد يدرك المجنون “الحر” ما لا يدركه العاقل المسجون. كان أبي يضحك كثيراً وهو يردّد أشعار ابن نواس أو بشار ابن برد، أو عبد الحميد الديب، الشاعر الساخر، ويردد أبياته، وكان يقرأ باستمرار روايات ومقالات العجيلي رحمه الله.

كان أبي يُحب المرح والفكاهة، ويقول: تنبع الفكاهة من المعرفة، وتؤدي الفكاهة إلى مزيد من المعرفة.

لم يحب أبى الخطب الرنّانة، التي أدمنها رجال السياسة والأحزاب.. يسخر منها قائلاً: “أسمع ضجيجاً ولا أرى طحناً”، وأغلب الخطب السياسية تنمّ عن التسلّط والاستعلاء.

كان أبي يكره السلطة والحكّام، لا يُحب الضجّة والزحام، يُفضل القراءة بعينيه عن السماع بأذنيه، ويقول: الكتابة تكره علو الصوت، التفكير يحتاجُ إلى الصمت.

كان أبي متواضعاً، منخفض الصوت، لم يرتفع صوته إلا مرةً واحدة، حين اتهمته أمي بالخيانة الزوجية، رأته في منامها مع امرأة أخرى فاستيقظت غاضبةً، صاح أبى “أنا مسؤول عن أحلامك يا سلمى؟ وقالت له أمي: لا دخان من غير نار، ولا ينفصل الحلم عن الحقيقة”.

كانت أمي، وهي تلميذة في مطلع صباها الذي لم يكتمل مع المعرفة ومع إكمال دراستها، تحب الإنصات إلى الشعر، وتحلم بأن تكون كاتبة أو شاعرة أو عالمة، لكن أخرجها أبوها بالقوّة من المدرسة، ليزوجها من أبي، فتوقفت تماماً عن الكتابة والطموح الأدبي أو العلمي، واكتفت بولادة ثلاثة عشر من الأطفال، ثم مات أبي رحمه الله وهو في الثالثة والستين من عمره، وأمي، ظلت، ولله الحمد، تنعم بالحياة وإلى اليوم تعيش أيامها صابرة مكابدة على الرغم من وجع الحياة التي عاشتها!.

لم تكفّ أمي عن الضحك والسخرية، خاصةً من مؤسسة الزواج، كانت تقول عنها: مقبرة المرأة.

ومات أبي وهو واقف كما تسقط الأشجار، لم يرقد مريضاً، وكان يقول: سأموت وأنا أمشي.

وبعد بلوغه الستين وما يزيد من هموم الحياة ومشاكلها والجهد الذي بذل لقاء قوام أسرة كبيرة، لم يفكر أحد من أبنائه يوماً في مساعدته والأخذ بيده لسد جزء من مطاليبها، وإن كان لا يقبل شخصياً ذلك، فرَدَ ذراعيه وقال: أخيراً سأكتب بعد أن تحرّرت من سجن الحياة. وإن كنا فقدناه في صبيحة يوم مشؤوم، وهو منطلق إلى عمله الذي يغرق فيه وكان يولية أهمية كبيرة، ويكسب منه لقمة معيشة أسرته الذي لم يتردد يوماً عن تأمين احتياجاتها، وما أكثرها، لكنه مات بعد أيام قليلة دون أن يكتب شيئاً.