لكل السوريين

كل ما قالته بيربوك في أنقرة كان واضحا

بوضوح تام، وكلمات لا تقبل التأويل، رفضت برلين قيام أنقرة بهجوم عسكري على شمالي سوريا وفق تصريح وزيرة الخارجية الألمانية، أناليندا بيربوك، خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعها بنظيرها التركيّ، مولود جاويش أوغلو، وبذلك انضمّت برلين رسمياً لطابور الدول الرافضة للهجوم التركي المزمع على شمالي سوريا، رفقة واشنطن وموسكو وطهران وباريس، ويعزز من جدية هذا الانضمام أن الوزيرة قادمة من حزب الخُضر اليساريّ الأشد عداءً لسياسات تركيا المناهضة لحقوق الإنسان وتدخّلاتها العسكرية في سوريا والعراق واستفزازها جارتها اليونان.

مع تشكل ائتلاف “شارة المرور” الحاكم، الذي جمع  الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر والليبراليين، وجد الخضر فرصتهم في إنهاء حقبة غض الطرف عن تجاوزات تركيا والقطع مع سياسة “تحالف المكرهين” التي جمعت أردوغان بميركل وتسببت في ما يشبه الإذعان لرغبات تركيا، خاصة تدخّلها العسكريّ في سوريا، فقد كان أقصى ما قامت به حكومة المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، أنّها خفّضت صادرات الأسلحة إلى تركيا عقب عمليتها التي سمّيت “غصن الزيتون” وانتهت إلى احتلال عفرين، ثم فرضها منعاً جزئياً آخر لصادرات الأسلحة إلى أنقرة كإجراء عقابيّ عقب شنّ الأخيرة عملية عسكرية انتهت باحتلال رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض. بيد أن تمرير الأسلحة غير القتالية استمرّ رغم الإحاطات البرلمانية والاعتراضات التي قدّمتها كتلتي اليسار والخضر على مسألة تمرير الأسلحة.

يبدو أن الوزيرة في مؤتمرها الصحفيّ لم تتوسّل الأساليب الدبلوماسية والكلمات المواربة، الأمر الذي أربك نظيرها التركي، فمسألة المطالبة بحرية الناشر والمعارض عثمان كافالا بدت غير قابلة للإرجاء إلى مرحلة لاحقة أو جعلها قضيّة ثانوية يحتمل نقاشها في الغرف المغلقة بعيداً عن الإعلام، فيما أبدت بيربوك وضوحاً إزاء سيادة اليونان على جزرها في بحر إيجا، ولعل ما يغذّي الاعتقاد الألماني بأن تركيا تسعى للتوسّع بحراً هو ابتداعها لمفهوم “الوطن الأزرق” والذي يستند إلى نزوع توسّعي، خاصّة وأن أنقرة تحتفل في هذه الأثناء بالذكرى الثامنة والأربعين لغزوها قبرص، وقبرص هنا هي آخر أرضٍ أوروبيّة محتلّة، ما يعني أن أرشيف تركيا الأسود في البحر الأبيض يضاعف من الشكوك المتصلة بتكرار الأمر في بحر أيجا لا سيما فيما يخصّ جزر ليسبوس وخيوس ورودس، وهو ما لن تسمح به برلين بأي حال.

ثالث المسائل التي أثيرت بوضوح، تمثلت برفض ألمانيا عملية عسكرية تركية في شمالي سوريا؛ فالأمر طبقاً للوزيرة يدخل في خدمة “داعش” (الاسم الذي نطقته بيربوك وفق الاختصار العربيّ الشهير للتنظيم)، كما أن العملية ستؤدي إلى ضرب استقرار المنطقة و”لن تؤدي إلّا لمزيد من الألم للناس”، وإذ كان صحيحاً أن التصريحات والمواقف الغربية لن تثني تركيا عن تنفيذ هجومها، ما لم تكن مقرونة بعقوبات قاسية، إلّا أنها تشجّع معارضين أتراك للتصدّي لسياسة الحكومة القائمة على الاستفادة من فكرة شن الحروب الوقائية والدعاية التي تجنيها من أهروجة “حماية الأمن القومي”.

شجاعة ووضوح بيربوك دفع الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي، مدحت سنجار، لإبداء إعجابه بتصريحاتها  الصِدامية، ليمضي أبعد من ذلك مطالباً باتخاذ خطوات إذا ما نفّذت تركيا تهديداتها بالهجوم على شمالي سوريا، على ما يمثّله الهجوم من انتهاك للقانون الدولي، ويمكن اعتبار ما قاله سنجار خروجاً عن أدبيات المعارضة الرسمية التي تلتزم الصمت إزاء خطاب الحرب الذي تصرّ عليه الحكومة, غير أن إصرار عواصم أوربية على رفض فكرة الحرب قد يحرّك بقية الأحزاب المعارضة أيضاً، ويُخرج من يد الحكومة التركية ورقة الحرب لصالح أوراق السلام التي يمكن الاستثمار فيها والتي باتت تحظى في هذه الغضون بقبول أوروبي وأميركي.

الأمر الأكثر وضوحاً في المؤتمر الصحفي لوزيري خارجية البلدين، كان نوبات الغضب وفقدان التوازن التي أصابت جاويش أوغلو وهو يكثر من الأسئلة الاستنكارية من قُبيل، “لماذا لا تذكرون اليونان ولكن تذكرون تركيا فقط؟ لماذا تذكرون كافالا؟ لأنكم استخدمتموه”، فيما بدا أن تركيا فقدت لياقتها في استعمال أوراق ابتزاز ألمانيا وأوروبا، لا سيما ورقة اللاجئين.

قصارى ما يمكن فهمه من المواجهة الدبلوماسية التركية الألمانية هو أنه آن الآوان لتتعايش تركيا مع فكرة نهاية حقبة ميركل المديدة التي حملت معها كل مسايرة ممكنة لسياسات تركيا والرضوخ لابتزازها، كما أنه يمكن القول بأن تركيا استنفذت قواها في صراعات داخلية وخارجية وما عاد بمقدورها الدخول في صراعات جديدة خصوصاً مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي، وعليه فإنّ التعامل مع ألمانيا تقود خارجيتها أوّل وزيرة في هذا المنصب وافدة من حزب يعجّ بأفكار الحداثة والعدالة وحقوق الإنسان لن تكون مهمة يسيرة لحكومة تعمل وفق نسق سلطويّ.

نورث برس/ شورش درويش