لكل السوريين

رائحة الموت في كل مكان تحاصرنا، مع الظلمة والفقر وحاجاتنا للغاز وللمازوت والكهرباء

إن لم تكن قد قتلتك النار التي هامت على وجهها في القرى والجبال فقد قتلك وهجها وريح أنفاسها التي جاءت ضرباً وتقتيلاً على الزرع وما نشر من محاصيل ومواسم على الأشجار والمناشر كما خيوط التبغ والدخان التي أًصبحت رماداً وهباء منثوراً وفتاتاً منشوراً على تخوم الأرض الزراعية كما عند السيد فريد الذي يقدم لنا شهادة مؤلمة جدا, حيث قال: وهو يزمّ شفتيه يتحسر ويلوم حظه باكتئاب شديد وماء العين في أغوارها تعص على القلب ولا تستطيع النزول: كنت بالأرض في تلك الليلة المشؤومة وأنظر إلى لهيب النار وفحيحها يلّف بالأراضي والبيوت في تلك الأودية والجبال خلف قرية السرسكية (بريف اللاذقية)، وقلبي قد ولعت فيه نار لا تخمد إلى اليوم ولمّا صحوت من غفلتي وصدمتي ونظرت إلى الخلف رأيت من حولي ريحاً تضرب بمحصول التبغ الذي نشرته ولم يجف بعد ليكون فتاتاً على وجه التخوم والأرض .

زرعت دخاناً في شقفة أرض ورثتها عن والدي بمساحة دونم وجزء من دونم آخر، إذ إن الدخان (بيجمع) أي تأخذ سعر محصولك بدفعة واحدة، وكنت أغيب عن بيتي أربعة أيام بالأسبوع، بداية فلحت الأرض مرة واثنتين وكلفتني عشرات الآلاف، واشتريت شتول التبغ من سكاكيب الجيران وغيرها من مشتل الزراعة، وبعدها بألف منية وبوسة يد وتوصيات من فلان وعلان حصلت على كيس سماد، زرعت الشتول ورويتها من البئر حيث لا ري ومعطل منذ سنين ولم يعمل منذ إشادته وتركوه على عطله إلى اليوم وبالاسم فقط نذكر أن  الري بالخط الرابع وصل إلى أراضينا في وطى السرسكية وبيت ناصر ولم ننل منها نقطة ماء إلى اليوم، والعطش يضرب بأطنابه لترى بساتين الليمون في قحط وقد هجرها أصحابها, بعد أن قل الرزق وجف.

الحمد لله نمت الشتول وبرعمت واشتد عودها لتكون ورقتها بطول ساعد اليد بل معظمها تجاوز الطول المحسوب، تفاءلت واستبشرت خيراً بمحصول جيد وثمين يدفعني لفوق وارتقي لمراتب الأغنياء، وقد ساعدتني أختي وأولادها بقطف الأوراق وشكها بالخيطان التي علقناها في فضاء الأشجار وخيم ومناشر قومت لها البنيان لترتوي من أشعة الشمس وتسمر كما عشاق البحر على الشطآن، فرأيتها كل يوم على التخوم كالمصابيح في كبد السماء توقد شعلة الأمل في نقسي وبصيص أحلام، خاصة أن ولدي الصغير بالصف التاسع ويحتاج للدروس الخصوصية والآخر بالصف الحادي عشر، كنت أعمل بجد واجتهاد وقد أتيت ببعض الإنتاج من الخيوط المثقلة بأوراق الدخان إلى غرفة استأجرتها بعشرة آلاف ليرة، وأخرى منها تركتها على المناشر لتجف وهي تزن نصف المحصول وقد عصفت بها أنفاس النار والريح الشرقية وكان ما لم يكن بحسبان البيادر ورأيت الأوراق بيباس شديد وكالقش تطير وتضربها الريح وتفتت نسيجها ولم يبق معلقاً بالخيوط غير هيكل من الأضلاع ، لقد مزقت معها أيام التعب والشقاء وتحت أشعة الشمس الحارقة كنت أزرع وأقطف وأعمل طوال النهار، تجمدت في مكاني ووقفت عن الكلام.

سلاف العلي