لكل السوريين

العجيلي.. محدثكم الكبير

هَجعي إلى الكتابة يُشكل بالنسبة لي رغبة وألم، وبصورة خاصة، في حال غيابي عنها لمدة لا تتجاوز الأيام العشرة في أعلى مراحلها.

هذا الهاجس له أبعاده، و طالما أشتهي الكتابة، بصورة مستمرة، ما يجعلني أضع نفسي بين هلالين معترضين لا ثالث لهما: الإقبال عليها برغبة حقيقية، والاعتراف بفضلها، أو الجحود لها.. ولم أتعوّد أن اضع نفسي في الباب الثاني، سيّما أنني لم أقصّر  يوماً بتقديم أي خدمة يمكنها أن تفيد القارئ، لأنها تطرزّني بالذهب، وتأخذني بعيداً إلى عالم الأدب، وهو عالمي الذي بدأت أبني عليه مستقبلي، واستأنس فيه وحدتي ورغبتي الشديدة في الوقوف أمام جمهوري المثالي العاشق  للصورة وللكلمة معاً، الذي طالما يدفعني، وبصورة دائمة، إلى الوقوف على اكتناز أمثال هذا الصور الوجدانية التي أجد فيه ضالتي، وأتمرّس فيه تحت سقف دكّاني وحدوده الممنوعة من الصرف، والذي يطويني طياً ويجعلني أبوح بهذا النّفس النقي التي تصرّ حركة القلب وتدفّقه على أن تكون له أبعاده، وباشتراطاته البسيطة السهلة، وإن كانت معلّقة، على أن أقدمها للقارئ، ورغبتي بأن آمل ما يمكن أن أفعله رغم اصرار البعض من العامّة على وجه التحقيق على أن ما احتللت به عليهم وحدتهم، بل أنّي أراعيها وباستمرار.

وكما يقول الكاتب الكبير، طيب الله ثراه ـ عبد السلام العجيلي ـ بعد أكثر من ستة عشر عاماً من الفراق، رحمه الله، وأنا الذي سبق أن التقيت به في عيادته الخاصة، وفي بيته الحجري المكوّن من طابقين، وكنت في حينها ما زلت شاباً يافعاً أتعلم بذور الكتابة، وافخر أنني من الرّقة، مولد المرقدين، مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وأويس القرني..

لما لا أليس أنني من روّاد العجيلي، ومحبّي فنّ الرواية والقصص، وهو الذي عشق صنوف الكتابة والأدب، ناهيك عن الكتابة في مجال التاريخ والفلكلور ومجيد الرّقة والباحث عن تاريخها، وهو الذي من لم يعجز يوماً عن التغلب على كثيرين ممن جايلوه.

فهو من كتاب سورية المجيدين، وهو من عرف أن للرّقة تاريخاً، وهو الذي زاده هوساً بناء مدينته، وعشقه هواءَها، وظلّ ينقل خطواته الواسعة بين مدينة الرّصافة، والرّها، ومدينة تدمر، مع المرحوم الآثاري مصطفى الحسون، فتناولا مدينة الرّقة، وكتب عن مدينة السخنة، ولم يهجرها في تناوله لها.

كان العجيلي النبراس الحقيقي لأبناء الرّقة. كانوا يفرحون لمجرد رؤيته لهم عندما يرونه يسير في الشارع، أو لمجرد مشاهدة عابرة، أو يسمعون به على أنه ها هو زائراً لمكتبة الخابور “بور سعيد” وصاحبها العاشق للكتاب ولمخطوطات العجيلي.

الخابور الذي أسّسس مكتبة عمرها تجاوز السادسة والستين عاماً، وكان ينشط في قرارة نفسه عن كل ما هو جديد، ويهتم بكل ما هو مفيد، وكذلك كانت تصدمه الصدفة في الجلوس إلى جانب أسرة العجيلي التي يفرح بحضورها، وتسود التهاني بصورة اسبوعية بجلسات مفتوحة وغنية، فهل نبخس حق أبا بشر المتحدّث الكبير الذي طالما نتشرف به، ويتشرف به أبناء الرّقة ومثقفيها؟. أبا بشر الذي تعلمنا منه الكلمة الطيبة، والأخلاق العالية، والحكمة المؤداة، والقول الفصل الرصين والفصيح، والحب الصادق، وروح الهاوي التي لم تعرف يوماً روح المحترف رغم أحقيته له، والبحث عنه، ولم يلجأ يوماً إلى قيادة سيارته “البويْك” بدوافع التفاخر، لا أبداً، فكان ينتقل أغلب وقته مفضلاً ذلك راجلاً باحثاً عن أماكن جديدة وأحداث عميقة تجرّه إلى تجارب أكثر اقبالاً من قبل العامّة.

ففي احدى سفراته، رحمه الله، وفي حكاية سبق أن سردها، قال:

كنت إلى جانب خمسة، كانت معنا امرأة من أهل السخنة، وفوّرت السيارة، فأرادوا أن يطفئوا محركها الساخن فما كان على المرأة الريفية الوحيدة التي معهم، ألجأت إلى سائق السيارة، فاستدرجته وقالت له وبدون خجل، خالتكم ستفعل فعلتها، وستنطلق كقنبلة غريبة فأرجو منكم أن تديروا ظهوركم وسيتحقق بلا شك حلمكم الضائع في الصحراء. في الحماد السورية، التي ليس فيها لا طير يطير ولا بشر يسير!. وبالفعل حققت ما عجزت عنه الركاب الأربعة والسائق الذي لم يأخذ حذره وهو في هذه المتاهة.. وبالفعل تمكنت أن تشمّر خالتي عن فخذيها وتبارك لها السماء بمدرار غزير، ويستيقظ النائمون من حلمهم.

وقال العجيلي، رحمه الله: إنّها إرادة الخالق. لم نفعل شيئاً، ولتطربوا.. إنها النساء، إنّها حلم سعادتكم التي لا قبلها ولا بعدها.

اصحوا .. اصحوا.. فلتكن البداية، ومن هنا.

هذه نهفة من نهفات ما سرده أبا بشر رحمه الله، وجعل الجنة مثواه.

إلى رحمة الله أيها العجيلي الكبير، فقد قلت يوماً أنك أخذت من الدنيا الكثير . كتبت وزرت وحضرت االعديد من الاجتماعات، وترأست كعضواً في مجلس النواب، وصرت وزيراً، ولأكثر من مرّة، وكنت عاشقاً ومحبّاً للأدب، وكتبت في الكثير من المجلات الأدبية والثقافية، كـ “الدوحة” القطرية، و”الديار” البيروتية… وغيرها كثير.

 

عبد الكريم البليخ