لكل السوريين

آخر ما توصلت إليه تركيا الأردوغانية هو الإصرار على تقسيم ليبيا.

من المؤكد بأن تركيا لا تمتلك القوة الكافية كي تتفرد في هذا المبغى؛ ولا يجب حين التنويه بأنها ليست وحدها حتى يكون الطرف الذي يهيأ عملية التقسيم فقط هو حكومة السرّاج كطرف محليّ باتت وظيفته بمثابة وضع السكين التركي على الرقبة الليبية؛ بإسناد من المرتزقة السوريين الذين فاقت أعدادهم العشرة آلاف، واحتكاماً بالتاريخ: فإن عشرة آلاف، ولا أضعافه يستطيع تقسيم بلد ما؛ هم في هذه المعمعة الطرف الأضعف، وفي الوقت نفسه الأكثر تحريكاً على رُقَعِ الشطرنج بهدف التضليل الإعلامي، وإنفاذ الصور، والنتائج الخاطئة؛ إنْ كانت في سوريا، أو ليبيا، أو في أي محل مشتعل آخر في شرق المتوسط.

المسألة ببساطة تكمن بأن قصفاً يُشَن على العقول قبل التراب في الوقت نفسه، وبخاصة إذا تصالحنا مع ذاكرتنا فإن الذي قام بتوزيع البارود في المنطقة هو تركيا الأردوغانية، والأغرب من ذلك حينما أفضى العدالة، والتنمية التركي كل ما في جعبته موضِّحاً مهامه مُقِّراً بها: بأنهم العثمانيون الجدد! لم تثر هذه الجملة التي أطلقها داوود أوغلو وزير خارجية تركيا في نهاية العام 2014 حفيظة أياً من في المنطقة.

على العكس كان يستقبل هو، ورئيس وزراء تركيا حينذاك أردوغان من قبل أغلب زعماء المنطقة بأنه (أسد السنة) و(حامي حمى المسلمين)، و(محرر القدس من بعد حماه، وحمص، والصلاة في الجامع الأموي).

مثلما لم تكن تركيا الأردوغانية وحدها حين احتلال عفرين، ولاحقاً رأس العين، وتل أبيض سيكون من المؤسف لو نسمع بأن طرفاً رسمياً، أو مدنياً في المنطقة يتهيأ في دعم معلن، أو مخفي للمنشق عن العدالة، والتنمية داود أوغلو رئيس حزب المستقبل التركي، وهو الذي يعد مفكِّر العثمانية الجديدة؛ سيكون أشبه بالقراءة الخاطئة، أو العاطفية حين يحتسب كبديل لأردوغان.

بالأساس رؤاه مغلوطة، ومتناقضة بشكل أوضح في تصوراته غير المنسجمة (العمق الاستراتيجي) كأصل نظريٍّ، وتمهيد وترصيف للعثمانية الجديدة، أو حين الادعاء مع هذا الفهم بِ(صفر المشاكل).

أما التركيز على هذا المثال فأشبه أن يكون بالمدخل الاجرائي، وتقييم التجارب التي مرت بها المنطقة بمفاد أن المفاضلة يجب أن لا تكون بين استبدادي وفاشي؛ إنما من المفترض أن يتم قطع الطريق على أية محاولة لإعادة تعويم أي شكل من أشكال الاستبداد؛ في محاولة تصوّر بديل أي نظام استبدادي جماعة نمطية تقابلها بالقيمة، وتعاكسها بالشكل الظاهري؛ بمثل الذي حدث، ويحدث في سوريا من خلال إصرار أغلب المقاربات للأزمة السورية بأنه لا بديل عن نظام الاستبداد المركزي سوى جماعة الإسلام السياسي.

في ذلك؛ يذهب بعض المشهود لهم تاريخهم بالماركسية، والعلمانية في تقنين ذلك؛ متمسكاً مروجاً للإسلام السياسي مثالاً: في إحدى اسهاماته الأخيرة يزعم (معارض ماركسي سوري) بأنه إلى الاخوان المسلمين في سوريا يعود الفضل في كتابة أول دستور علماني سوري؛ أي دستور 1950! كيف استوى عند هذا (الماركسي) ذلك حينما أدرج في ذاك الدستور مادة اعتبرت كمبدأ أساسي لاحق: الاسلام دين رئيس الدولة. من المؤكد بأننا في ذلك لا نعد الإسلام بالمشكلة؛ عكسه الصحيح؛ لأن المسألة تكمن حين تسييس الأديان، وبخاصة الإسلام الذي يعد تسييسه بأحد أهم مشاكل، ووسائل الفوضى في الشرق الأوسط؛ شأنه في ذلك شأن أية محاولة لتعويم تفكير فئوي، أو نمطية محددة في ظل التنوع الاثني، والقومي، والديني والمذهبي الذي تشهده المنطقة.

بخاصة في مجتمع تعددي عظيم التنوع كمثل المجتمع السوري، والأزمة السورية هي تجلٍّ من تجليات مركّبة تجتاح العالم والمنطقة، وإنْ تم الاتفاق بأنه حتى الفوضى تمتاز بنظام خاص بها؛ بأهداف، ووسائل، واستراتيجيات خاصة بها، تنقل من خلالها الأزمات إلى مقلب أكثر صموداً؛ فإن أي فوضى لها وظيفة محددة؛ ربما؛ أبرزها: إنفاذ نظام جديد مهيمن من بعد تصدير أكبر قدر في نتح؛ فتجفيف؛ وتخلُّع؛ فإسقاطٍ لشكل الهيمنة القديم.

في ظل الاصرار على أن يكون المشهد في شرق المتوسط صراعاً طائفياً (سنياً شيعياً)، أو صراعات قومية تقودها تركيا الأردوغانية –أكثر من غيرها- ضمن أطر (الممتلك العثماني)، و(ميثاق تركيا المليّ)، أو تحت أطر، ومسميات أخرى؛ فإنها كلها تعد –بات بالمعلوم- لغة الحشد بغية التوسع والاستيلاء على مقدرات شعوب المنطقة في صنع مسارات اقتصادية جيوسياسية جديدة من تدفق الغاز، والنفط.

في ظل هذا يبدو التشويش على فكر الأمة الديمقراطية كبيراً؛ الفكر الذي هزم فكر إرهاب داعش، وارتزاقه في سوريا؛ كما كان السبب في ميلان الكف، وهزيمة أردوغان في انتخابات بلديات إسطنبول، وأنقرة، وغيرها من المدن الرئيسية وفي جنوب شرق تركيا قبل نحو العام، ويبدو بالبديل الديمقراطي لنظام الاستبداد المركزي في سوريا من خلال نموذجها أو تجسيدها الإداري في الإدارة الذاتية كصيغة معرفية سياسية متطورة تتوازن إثرها صلاحيات الحكومة المركزية وصلاحيات الإدارة/ ات اللامركزية الديمقراطية على المنحى الإداري العام.

لكن غالبية أوربا رفضت الروسوية، وثورة العقد الاجتماعي الفرنسية لكن كلها في أقل من خمس عقود عملت بها، ولا يزال دأب أوربا بشرقها، وغربها حثيثاً في تطوير صيغ الديمقراطية الأنسب بخاصة في ظل فضح الجائحة كورونا بضعف الأنظمة الغربية على المنحى المجتمعي الاقتصادي السياسي الصحي.

أما إذا سلّمنا بأن الشرق الأوسط عبارة عن وحدة جغرافية سياسية اقتصادية؛ تقطنه مجموعة من القوميات، والأديان والثقافات التي تتكامل، وليست بالمتصارعة؛ حينها نكون في بداية الطريق الصحيح لإنفاذ المنطقة من الفوضى سوريا من ذلك بداية صحيحة في درب امكانية لبناء أكثر تماسك لمثل هذا الفهم و/ أو التحدي المعرفي.

بالرجوع إلى ليبيا فإنه يبدو السؤال الأكثر إلحاحاً: لو لم تحتل تركيا عفرين فهل استطاعت اللحظة تسليط سكين التقسيم على ليبيا/ عموم المنطقة بغية تفتيتها؟ سوى أنه يبقى السؤال الأساس الواجب تكراره دائماً: من عند عفرين يبدأ حل الأزمة السورية، أو التقسيم.