لكل السوريين

التبغ اللاذقاني والجبنة الحموية بضائع دائمة الحضور ضد ثقافة الكراهية

إن ثورة الشيخ صالح العلي، المثير للمتاعب والقلاقل ومفجر أول ثورة سورية ضد الفرنسيين عام 1919، تلقت دعما من تجار مدينة حماة حيث أرسل بعض وجهائها، ومن بينهم رئيس الحزب البلشفي، الدكتور محب زاد والحاج محمد الكبال والشيخ سعيد زيمور والدكتور عمر الدلال والشيخ طاهر النعسان وآخرون حمولة (سبعة بغال) من الذخيرة إليه عن طريق الغاب أيام كان مستنقعا يصعب اختراقه، في حين لم تتلق وقتها أي دعم من مدن الساحل.

ليس التبغ فقط بوابة للعلاقات بين اللاذقية والجبل والغاب وحماة المدينة، بل يحتل زيت الزيتون، بأنواعه، مساحة جيدة أيضا في ظل انقطاع تواصل حماة إلى حد ما مع إدلب، على المستوى الأهلي في القرن العشرين بقيت العلاقات بين حماة والجبل محصورة في شقها الاقتصادي غالبا دون نسيان أن ما جرى في حماه عام 1982 تسبب في حدوث شقاق نوعي بين أهل المدينة والجبل لم تتعافى منها للوقت الحاضر بسبب التعتيم الحاصل في الذاكرة الجمعية على ما جرى بالدقة، وأضافت الاحداث الأخيرة أبعادا مضافة لهذه القطيعة، إلا أن الباب الاقتصادي قد يساهم في ترميمها.

في هذا العام وكما في الأعوام السابقة وفي عز تظاهرات حماة، صيف العام 2011، لم يتوقف مجيء تجارها إلى الجبل، يخمنون ويشترون الدخان العربي (التنباك والمفروم) ويسربونه إلى حماة خفية عن الدولة وجهاز الريجي (الاسم الفرنسي لمؤسسة التبغ التي أنشأها الفرنسيون) ومراسليها وعبر الحواجز المنتشرة، وهؤلاء يأخذون نصيبهم من التهريبة، مبلغا بسيطا من المال.

يعتبر التبغ المنتج في الجبال الساحلية واحدا من أفضل أنواع التبوغ، فقد عرف منذ نهاية القرن التاسع عشر بعد إضراب قام به المزارعون احتجاجا على تدني أسعاره شتاء عام 1890، ورفضوا بيعه وخزنوه في بيوت ترابية وأشعلوا قربها النار فأصاب التبغ الدخان وأصبح ما يعرف لاحقا باسم: التبغ المدخون، لم تلبث أن حلت المشكلة ورفعت أسعار التبغ، إلا أن التبغ المدخن ذاك، أصبح فيما يلي من الأيام مطلوبا في الأسواق الداخلية والخارجية لطعمه الطيب، وحتى اليوم ما يزال يعرف باسم التبغ اللاذقاني عالميا، حيث يزرع أنواع مختلفة منه في السهول الساحلية من نوع (البصمة) الذي يخلط مع النوع البلدي (شك البنت كما يسمى)، ويوفر هذا القطاع فرص عمل لأكثر من مئة ألف إنسان على الأقل عدا عن العمال في المؤسسات التابعة لهذا القطاع، ويصرح المزارعون عن الكميات التي سوف يزرعونها وعلى أساسها يتم تقدير كمية الإنتاج المتوقعة (تسمى هذه العملية تخمين يقوم بها أشخاص يسمون مراسلين)، وغالب المزارعين يزرعون فوق ما تقدره لهم مديرية الزراعة بغاية بيع الزيادة في السوق الحرة التي ترتفع أسعارها عن أسعار الدولة بأكثر من الضعفين.

وتعتبر حماة من المراكز المهمة لتصدير التبغ المفروم إلى مختلف الأنحاء السورية، إذ تتوافر فيها عدة مناكل (أداة تقوم بفرم التبغ بعد ترتيب أوراقه وتجهيزه للفرم)، ويتم نقل التبغ المفروم عبر قنوات تهريب خاصة إلى العاصمة التي يرتفع فيها سعر الكيلو المفروم إلى ما فوق ال 500 الى 600 ألف ليرة سورية، وقد ازداد عدد مدخني هذا النوع بعد ارتفاع أسعار مختلف أنواع التبغ المحلي أو المستورد إثر انخفاض قيمة الليرة الشرائية.

السيد أبو معاوية يقول وهو يشارك في تعزية في القرية: شو يعني؟ ليش جايين لهون؟ حتى نبيع الجبنة الحموية ونشتري الدخان، دخان دوير بعبدة والقدموس والدالية ما في متلو للتنباك وللدخان المفروم كمان، أنا ما بتدخل بالسياسة، جدي كان يشتري من هنا منذ قرن مضى وأنا أفعل مثله، ابني سيفعل ذلك أيضا، نحن توارثنا هذه العلاقات منذ قرن ولا مجال لنترك للسياسة أن تخربها، ويضيف قدر استطاعتنا ساعدنا الناس على الوصول إلى كل الأطراف، من الصحيح أن المدينة نجحت في الهرب من الحرب إلى حد ما، لكن ريفها تعرض لويلات الحرب، وهناك مخطوفين ومفقودين لا علاقة لهم بما جرى، أضاف السيد ميشيل وهو تاجر آخر من مدينة السقيلبية ، قائلا: مع بداية الأحداث لعبنا دور وسطاء مع أهل القرى هنا وعبر مناطق الجبل وذلك بسب وجود خوف كبير من القدوم إلى الجبل وبالعكس بعد انتشار أخبار وإشاعات شعبية فيها الكراهية والتفرقة.

على الرغم من أن الحكومة قد رفعت أسعار التبغ إلى أكثر من الضعفين نهاية العام الماضي لبعض الأنواع، إلا أن أسعار تجار حماة ما تزال تتفوق على أسعار الحكومة، فهؤلاء يدفعون مثلاً سعرا لكيلو من نوع فرجينيا، الأفضل والأعرض ورقا، ثمنا يقترب من ال 600 ألف ليرة سورية بزيادة الضعف عن سعر الحكومة، وللتنباك ب 700 ألف ليرة كذلك ضعف سعر الحكومة.

يشكل التجار بالتالي حالة إغراء تعجز الحكومة عن مجاراتها مما يدفع كثير من المزارعين إلى عدم التصريح عن كميات إنتاجهم الحقيقية من التبغ، لدرجة دفعت ببعض المزارعين إلى طرد مراسلي الدخان ذوي السلطة المعروفة هنا، أو إلى رشوتهم مقابل ضمان سكوتهم عن الأرقام الحقيقية للإنتاج، حيث يسلمون الدولة كمية قليلة والباقي يباع إلى التجار.

يغطي طيف الشراء أغلب المناطق التي تنتج التبغ في الجبل الساحلي، فتجد التجار منتشرين وفق علاقات قديمة أسسها الزمن الماضي في الدالية ومعرين والقدموس وبطموش وجبل الشعرة وحرف السيري ووادي القلع وجرد بانياس الممتد حتى أطراف حماه، حيث يزرع التبغ البلدي كزراعة بعلية دون استخدام سوى قليل من المبيدات الحشرية الأمر الذي يجعل الإنتاج متمتعا بجودة ونقاوة مفقودة في إنتاج المناطق المروية.

التبغ وزيت الزيتون والجبنة الحموية بوابات للعلاقات بين الجبل والغاب وحماة المدينة، الأمر الذي يجعل من الاقتصاد بوابة حقيقة لردم الهوة بين الجانبين ليس من منطلق التجارة فقط التي تساهم لا شك في ذلك، بل ومن بوابة إفادة الجانبين من فوائدها في توسيع العلاقات المجتمعية، فقبل وقت شهدت إحدى قرى بانياس أول حالة زواج مختلط طائفيا، كان عرابها أحد التجار الحمويين.