لكل السوريين

إدلب تُدمر بين الحسابات الاسرائيلية والتركية والإيرانية والخاسر هم السوريين

بات معروفاً وبدون أدنى شك أن تركيا وإيران واسرائيل هم أكثر الدول الإقليمية التي تمتلك مشاريع الهيمنة والرغبة في التحكم واستغلال شعوب المنطقة ودولها وهم يترصدون ويتدخلون في أي محاولة من شعوب المنطقة لتحقيق مزيد من الحرية والديمقراطية والعدالة، فهم يعتبرون أي تغير وخصوصاً في الأوضاع الراهنة للشعبين العربي والكردي سيكون على حساب مصالحهم ومشاريعهم التمددية واستراتيجياتهم المناهضة لقيم التعايش المشترك الحضارية والتاريخية لشعوب المنطقة، بالإضافة إلى تبعية هذه القوى الثلاث وتنفيذهم لأجندة ومصالح النظام العالمي المهيمن وإن بأشكال وأثواب مختلفة متجاهلة ثقافة وإرادة المجتمعات.

ويتجسد ما ذكرنا في سوريا بشكل واضح. حيث أنه وبعد 15 آذار عام 2011 لم يستطع النظام استيعاب مطالب الناس وظل متعنتا في مواقفه من المطالب الشعبية المحقة.

وأثناء اشتداد الأزمة وإطالة أمدها ومحاولة الإخوان وقوى الإسلام السياسي ركوب الموجة مدعوماً من تركيا الأردوغانية اختلط الحابل بالنابل ووجدت تركيا في الأزمة السورية فرصةً للتدخل والتمدد عبر بناء مجموعات مسلحة وسياسية تابعة له، لتمرير أجندته ومشاريعه وكلنا يتذكر انعقاد المؤتمرات الأولى في تركيا لما يسمى المجلس الوطني السوري الذي كان تنظيماً لإخوان المسلمين السوريين بيد الاستخبارات الأردوغانية، وتكرر ذلك بعدها حتى وصلنا لما يسمى الائتلاف الوطني السوري الذي هو الاشتقاق الثاني أو الثالث للإخوان في سوريا على يد أردوغان كثورة مضادة ضد مطالب وإرادة السوريين بعربه وكرده وباقي مكوناته.

بعد التدخل التركي في الأشهر الأولى للأزمة السورية وجدت إيران أيضاً بحلول عام 2013 مبرراً وطريقاً واسعاً للتدخل عبر البوابة الشيعية والعلوية وعبر حكومة النظام السوري ودعوتها، ولكن دعم تركيا وقطر وتمويلها لكافة المجموعات الإرهابية والمتطرفة للسيطرة على الحراك السوري ولإسقاط النظام وقيام سلطة إخوانية والسيطرة على كل سوريا، وجدت إيران أنها غير قادرة وحدها على حماية بقاء النظام السوري بالرغم من جلبها حزب الله اللبناني والمجموعات الشيعية التابعة لها من العراق وأفغانستان، فطلبت التدخل الروسي عام 2015.

الجدير بالذكر أنه في نهاية عام 2014 وبأمر وبتحريض من تركيا هاجمت إحدى الأدوات الأردوغانية وهم مرتزقة داعش على الشعب العربي في شمال وغرب العراق وشرق سوريا وبعدها قاموا بالهجوم على المناطق الكردية في سنجار بالعراق وكوباني في سوريا بتوجيهٍ من أردوغان وحزبه، ونظراً لبسالة ومقاومة المقاتلين الكرد في مدينة كوباني ضد داعش تدخل المجتمع الدولي ممثلة بالتحالف الدولي لمحاربة داعش لمساندة المقاومين في مدينة كوباني، وبدأ تحطيم إحدى الأدوات الرئيسية للعثمانية الجديدة وهم مرتزقة داعش الذي جلبهم تركيا من كل أصقاع العالم لخلق الفتنة وضرب القيم الإسلامية، وزيادة عدم الاستقرار والتقاتل بين شعوب المنطقة لكي يتدخل هو ويعيد ميثاقه الملي على أقل تقدير.

وعندها أصبح التركي والإيراني والروسي بالرغم من اختلاف استراتيجياتهم ومشاريهم التوسعية أمام معادلة جديدة نتيجة الحالة المتشكلة في شمال سوريا، والتي يعبر عنها مشروع مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية والتي تعكس الإرادة السورية الوطنية وتجمع كل مكونات سوريا بعربها وكردها وسريان أشوريها وغيرهم، وتستند إلى العمق العربي والكردي كبعد استراتيجي لها وكجبهة شمالية لحماية الأمن القومي العربي لمختلف الدول العربية ضد التدخلات التركية والإيرانية بالمنطقة.

وهذا ما جعل تركيا الأردوغانية في حيرة من أمرها وأن يصيبها الذهول والاضطراب مما جعلها بعد حادثة سقوط الطائرة تتوسل روسيا وتطلب الصفح بعد الصفعات والرسائل التي أرسلها الروس عبر تشهير تجارة أردوغان النفطية مع داعش والعقوبات الاقتصادية على المنتوجات الزراعية التركية، وبعد مساعدة جيش الثوار وجبهة الأكراد المنضوين تحت راية قوات سوريا الديمقراطية في تحرير الشهباء وتل رفعت من أدوات أردوغان ومرتزقته.

وبعد هذه الرسائل الروسية وتدخل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية اختارت تركيا أن تكيّف تدخلها مع الأوضاع الجديدة، واختارت الذهاب مع إيران وروسيا في محور آستانة وتعهدت بالقضاء على ما تبقى من الثورة السورية، مقابل السماح لها بالتدخل في شمال سوريا واحتلالها، وقامت إلى التحالف الدولي وعلى رأسها أمريكا، وادعت أنها سوف تحارب داعش مع علم الجميع بعلاقتها بداعش، وعلى أثر التواطؤ من قبل محور آستانة واستغلال وجودها في الناتو، سمح لها باحتلال مدينة جرابلس عام 2016، علما أنها قامت بذلك بعد فترة قصيرة من تحرير مدينة منبج وريفها من قبل قوات قسد وقوات المجلس العسكري لمدينة منبج وريفها، وهذا يؤكد بدون أدنى شك أنها تدخلت لإضعاف الإرادة السورية الوطنية الممثلة بمشروع مجلس وقوات سوريا الديمقراطية وسد الطريق أمامهم لتحرير الأراضي السورية من المرتزقة وداعش، وبناء سوريا الديمقراطية الموحدة.

وبعد تحرير مدينة الرقة عام 2017عاصمة الخلافة المزعومة، وهزيمة مشروع العثمانية الجديدة عن طريق الوكلاء، تألمت تركيا هذه المرة كثيراً من هذه الصفعة والضربة وذهبت لبيع جغرافيتها والجيوستراتيجية التركية لروسيا مقابل السماح لها بضرب الكرد واحتلال مدنهم وتهجيرهم في سوريا انتقاماً منهم لكونهم جزء رئيس في قوات سوريا الديمقراطية التي حررت مدينة الرقة، والتي أفشلت مشروع أردوغان في سوريا، وقام أردوغان على أثرها بشراء أس 400 والسماح لروسيا بالتغلغل في تركيا اقتصادياً وأمنياً، وكذلك الاطلاع على بعض من أسرار حلف الناتو وبناء خط الغاز إلى أوربا لتقوية النفوذ الروسي مقابل الأمريكي، وبناء محطة أكويو للطاقة النووية, بالإضافة إلى تعهدها لإيران بعدم الالتزام بالعقوبات الأمريكية الاقتصادية وحصار إيران من قبل المنظومة الدولية.

على إثرها وبعد إسكات الأوربيين بموضوع اللاجئين وإرسال الدواعش بينهم إلى أوربا والتوافق مع الرئيس ترامب وجزء من إدارته وبدون وجه حق تم احتلال عفرين في حرب غير متكافئة، وبعد مقاومة بطولية لأهلها وقوات وحدات حماية الشعب والمرأة مدة 58 يوماً، وعلى أثرها تم تهجير أهل عفرين من قبل الجيش التركي المحتل ومرتزقته وممارسة التطهير العرقي والتهجير بحق الكرد السوريين وتوطين المرتزقة وأهلهم.

وفي هذا الأثناء استعادت الحكومة السورية وبدعم إيراني وروسي أغلب المناطق التي كانت خارج سيطرتها في غرب الفرات حوالي دمشق وحمص ودرعا، وتم إرسال من يرفض المصالحات والاستسلام إلى محافظة إدلب وحواليها.

لقد تم عقد اتفاقية استاتة بين روسيا وتركيا وإيران عام 2017، وعلى أثرها أقامت تركيا 12 نقطة عسكرية. وفي عام 2018 تم عقد اتفاقية سوتشي حول إدلب وأرياف حلب وحماه واللاذقية، خرج قسم منها للإعلام يتضمن خروج وتراجع المجموعات الإرهابية 20 كيلو متر وتحقيق تسوية على مراحل.

يقال إن تركيا تعهدت حينها بتسليم إدلب كاملة في النهاية إلى النظام السوري والبقاء لمدة مؤقتة في مناطق شمال سوريا المحتلة بتوافقات دولية وإقليمية، ولكن تركيا ومع هذه التأكيدات لروسيا كانت تحاول الاستفادة من كونها عضوة في حلف الناتو ولعلاقتها التجارية والاقتصادية ولمصالح الدول الغربية معها خلق واقع جديد يجبر روسيا وإيران والنظام على قبولهم بتقسيم سوريا، وبضم المناطق التي تحتلها في شمال سوريا، بعد إجراء التطهير العرقي بحق الكرد السوريين إلى تركيا في إطار اتفاق جديد تتوافق عليه مع روسيا.

ما زاد الأمور تعقيداً هو أن ادارة ترامب ولإبعاد تركيا عن روسيا، ولإضعاف الإرادة الوطنية السورية المستقلة لمجلس سوريا الديمقراطية سمحت لها أيضاً باحتلال مدينتي رأس العين وتل أبيض بدون وجه حق وزوراً وبهتاناً وخيانةً للجهد المشترك المبذول لحماية الإنسانية من داعش.

في الأسابيع الأخيرة تصاعدت حدة الاشتباكات في إدلب وحواليها وتقدم الجيش السوري مدعوماً من القوات الروسية والإيرانية في المنطقة التي شملها اتفاق سوتشي بالمجمل بعد حوالي سنتين من عدم التزام تركيا بتعهداتها وسحبها لسلاح المجموعات الارهابية وفصلهم حسب الرواية الروسية.

الملفت هنا هو الصخب الإعلامي والبيانات الحادة والمرتفعة من الطرف الروسي والتركي تجاه بعضهم وكأن الفراق سيكون مصير العلاقة بينهم بعد دفء العلاقة التي سادت في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد مذكرة التفاهم العسكرية بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية بالرعاية الروسية لحماية الحدود السورية الشمالية من الاحتلال التركي الذي حصل أثناء هجوم تركيا على شمال وشرق سوريا واحتمال اتفاق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مع الحكومة السورية بعد أن تغير من ذهنيته وسلوكها.

مع العلم أن روسيا أصبحت خلال السنوات الماضية تمتلك من المعلومات والادوات في الداخل التركي ما يجعلها ترغم أردوغان على الرضوخ في بعض الأحيان وإبقاء تهديداته في الإطار الكلامي والبروبغندا الموجهة إلى الداخل التركي، ولحفظ ماء وجهه أمام جمهوره الإخواني في المنطقة.

إذا أضفنا موقف الرئيس الفرنسي الذي يقلقه وضع النصرة في إدلب وكذلك الموقف الأمريكي الذي أكده جيفري وبومبيو الذي لا يتعدى إعطاء معلومات استخباراتية عن طريق اسرائيل لتركيا، وبعض الإدانة والشجب بعد قتل حوالي 14 جندي تركي على يد الجيش السوري بعد الموافقة الروسية، وكذلك الموقف الأخيرة للسعودية ومصر والامارات وكذلك الهند حول التدخلات التركية في المنطقة نجد أن خيارات أردوغان وتركيا في إدلب وسوريا باتت محصورة في الرضوخ لروسيا وقبول الوقائع الجديدة الحاصلة والقادمة، أو اللجوء إلى أمريكا كلياً، وهذا سيكلفها كثيراً على المستوى الإقليمي في المنطقة أمام روسيا، ومن الممكن أن ما يحصل لتقليص النفوذ الأردوغاني في سوريا هو بالأساس متفق عليه بين روسيا وأمريكا لتحجيمه والذهاب إلى حل سياسي.

ربما كان الموقف العربي حيال التدخل التركي في سوريا في البداية ليس بالمستوى المأمول، لكن ما شهدناه خلال احتلال تركيا لمدينة رأس العين وتل أبيض ولو أنه لم يكن كافياً لوقف الاحتلال لكنه كان سبباً في جلب المزيد من الرفض للاحتلال وفي خلق رأي عام مساند لدفاع قوات سوريا الديمقراطية عن وحدة الأراضي السورية وشعبها، مما جعل المتآمرين يراجعون خططهم، وينبأ هذا الموقف ويخبرنا أن هناك رغبة بدأت تتشكل في معظم الدول العربية بالإضافة لشعوبها في الذهاب إلى مواقف أكثر حزماً ضد التمدد العثماني الأردوغاني الذي يهدد الاستقرار ويقوي وينعش المجموعات الارهابية وخصوصاً بعد التدخل في ليبيا وجلب مرتزقة ما تسمى الائتلاف الوطني السوري من جبهة النصرة والجيش الوطني السوري الذي شكله اردوغان من بقايا داعش وشاركوا معه في احتلال مناطق شمال سوريا إلى ليبيا.

من المؤكد أن الحل للأزمة السورية يبدأ عبر توحيد جهود كل أبنائها لإخراج المحتل التركي من عفرين وجرابلس والباب ورأس العين وتل أبيض، وإقامة حوار سوري سوري، ورؤية الواقع والتغيرات الحاصل بعد حوالي 10 سنوات، وإشراك كل المكونات السورية في صياغة دستور يحقق الديمقراطية واللامركزية في إطار وحدة سوريا وعبر القرارات الدولية 2254، وليس عبر الاصرار على الذهنية والخطاب المسبب للأزمة وكذلك ليس بالتماهي مع أجندات الدول الاقليمية والمهيمنة.

أحمد شيخو