لكل السوريين

طُوبى لمن تشبّث برائحة الأرض

عبد الكريم البليخ 

استمع تركي إلى حديث صديق طفولته ناصر، وقال له:

يقولون أنَّ الرَّقة دمّرت عن بكرة أبيها! أغلب أبنيتها سوّيت مع الأرض ولم ينفع معها الترميم، وبحاجة إلى هدمها وإزالتها وبنائها من جديد، ما يعني أنها بحاجة إلى مبالغ طائلة تتجاوز مليارات الدولارات للعودة بها إلى ما كانت عليه قبل اشتعال فتيل الثورة!

العدوان سلّط سيفه على أعناق أهلها البسطاء فقتل من قتل منهم، وشرّد من شرد وهاجر أكثريتهم إلى وجهات مختلفة!.

ما الحل؟

عدوان غريب، لم يبقَ ولم يذر. الناس اليوم لم يعد أغلبهم، ظلّ أكثرهم يعيش في بلاد النعيم، وغيرهم كثير في بلاد أخرى أكثر مأساويةً. ما الحل؟

وبعد أن سيطر عليها “داعش” بأفكاره الشيطانيه، وحقده البغيض، وقتل الناس الأبرياء لأسباب تافهة، من أجل فرض سيطرته على أهلها بالقوّة، دُحر أخيراً بفضل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها، فأصبح حال الأهالي يرثى له. فقر مدقع، وحاجة لا بعدها ولا قبلها، وغياب للأمن و الخدمات.. فضلاً عن السطو المسلح، وحالات الترهيب والخطف، ناهيك عن الغلاء الفاحش في أسعار المواد الاستهلاكية التي وصلت إلى حد الجنون رفقةً بارتفاع أسعار الدولار، أما اليوم فإن الوضع الاقتصادي للأهالي تحسّن كثيراً عن السابق بعد أن استقر حال السكان، وعمل قسم كبير منهم على اعادة بناء جزء كبير من الأبنية التي تعرضت للدمار والخراب إلى سابق عهدها بجهودهم ومتابعتهم  واصرارهم بعد أن لحق بها ما لحق، كما تحسّن واقع الخدمات وبشكل كبير وأعيد العمل بها وتنظيم هيكلها من جديد وبجهود ملحوظة من قبل الجهات المسؤولة العاملة في المدينة التي تعمل جاهدة من أجل راحة المواطن والسعي المتمثل في توفير الأمن والراحة لجهة خدمته.

ومهما تحدثنا عن واقع مدينة الرّقة التي وصلت مع نهاية العام 2012 إلى حالة استثنائية، كمدينة يعيش أهلها حياة مريحة ومقنعة إلى حدٍ بعيد، إلّا أنه ـ وبفضل العصابات الهجينة المتغطرسة التي خربت البلد ودمّرته وأعادته وللأسف إلى عصور خلت ـ فهذا لم يرض أحد، ولا يمكن أن يقبل به حتى الطفل الرضيع!.

ومع هذا تغيرت ملامح الرّقّة، كما تغيّر ملامح العديد من المدن السورية وقراها، ولم يعد بالإمكان معرفتها، أو الاستدلال على أي شيء يمكن أن يشير إلى أنَّ الرّقة وغيرها، كانت هنا، نتيجة الدمار الذي نال قسم كبير منها!

هذا الواقع المؤسي، من المستفيد منه؟.

يتساءل تركي، بكل حسرة وألم. ونعود للحديث عنها في كل مرّة نستذكر واقعها الأليم الذي لم يخلص منه أحد.

إنّ العودة إلى تذكُّر الأيام الأولى للنزوح القسري، واستعادة صورها المخيفة، التي تماهت مفرداتها مع أصوات المدافع، وهدير طائرات سيخوي الحربية، وصواريخ سكود المرعبة، والبراميل المتفجّرة التي تساقطت تباعاً على أسطحة الأبنية السكنية التي يقطنها مئات الآلاف من الناس الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة كانت تثير الرعب في قلوب أهلها البسطاء. الله وحده القادر على حمايتهم من وابل حمم الموت المباشرة، التي ما إن تصطدم بالأبنية حتى تحوّلها إلى كتل من الركام، وخوف الأهالي الذين بدون وعي منهم يركضون في اتجاهات مختلفة. مذعورين، مذهولين… يأخذ كل واحد منهم مكانه في زاوية قصية من بيته باحثاً عن مخبأ يُحاول أن يصدّ عنه لهب النار والشظايا، وأكوام الحجارة المتناثرة من الأبنية المشادة المتلاصقة بعضها ببعض، التي أخذت بالتصدّع والتساقط على رؤوس أصحابها!.

وحدها أصوات الطائرات تُسمع فيسكن قلب المتدثّرين بالأغطية خوف مريب، ولم تعد البراميل المتفجّرة التي ترمي بها الطائرات المروحية من ارتفاعات منخفضة مرئية للناظرين، لم تميّز تلك البراميل العمياء بين صغير أو كبير، ولا بين شيخ مسن أو امرأة أو طفل رضيع!.

وابل البارود والخردة الفولاذية لم يترك أحداً من شرّه، أو متنفساً لأحد لكي يختار الطريق الآمن في الهرب إلى حيث يريد، فضلاً عن الكتل البيتونية وبقايا البناء الطائش المتطاير في كل اتجاه، كل ما هو جميل يستحيل إلى شظايا محرقة. شرّها المستطير يطال كل من صادف في وجهتها العبثية، وقتل الناس الأبرياء الضعفاء، لقد كانوا ينشدون الأمان ويحتملون الفقر المدقع وشظف العيش فصعدت أرواحهم وبيوتهم وموارد رزقهم إلى السماء.

من عاش الواقع، واستحمَّ بمائه العكر في تلك الفترة أدرك تماماً مرارة المعاناة، والحرب اللعينة التي طوّقت أعناق الأهالي، وأرغمتهم على ترك كل شيء والفرار بجلدهم، وحوّلت حياتهم البائسة إلى كآبة مطلقة. لقد غدت الهجرة والهرب متنفساً لأغلب الناس الذي فرّوا بريشهم من الموت المتربص بهم دونما ريش يستر خوفهم وبردهم. كان الرحيل أمراً لا مفرّ منه، فقد أخذ اليأس يُدرك هؤلاء الضحايا بدون أمل يرتجى فأخذوا “يُلمْلِمُون” ما أمكن من أشياء وأدوات بسيطة، عسى أن تُساعدهم في ملجأهم الجديد.

طوبى لكم يا أهلنا الصامدين في رقتنا الحبيبة…

بوركتم يا من تحديتم الموت والجوع ولا زلتم متشبثين بطهر الأرض وبرائحتها الطيبة.