لكل السوريين

إجترار التاريخ الملقن ومحاولة إعادته

التاريخ هو المعلم الأكبر كما يقال، ولكن هل هناك مصداقية في رواية التاريخ الذي يتم تلقينه من الأنظمة؟ فنحن نعرف أن الأنظمة التي تتحكم في المجتمعات وتعمل على التدخل في كل ما يخص المجتمع بما في ذلك ذاكرته بشكل يحقق الإستمرارية للنظام، ومنها تاريخ المجتمعات.

التاريخ البشري بات معلوماً إلى درجة ما، بعد إختراع الحروف مع الحضارة السومرية في ميزوبوتاميا والهيروغليفية في حوض النيل ثم انتشارها وتفرعها وتطورها إلى يومنا الراهن. وكما نعرف أن تاريخ البشرية هو صراع بين الخير الذي يخدم المجتمعات البشرية، والشر الذي يخدم إحتكارات السلطة والثروة. ولكن التاريخ المكتوب كتبه الأقوياء كما يقال، أي إحتكارات السلطة والصراعات التي خاضتها فيما بينها لتوسيع مناطق حكمها وإستغلالها، منذ نشوء دولة المدن ثم توسعها إلى إمبراطوريات وممالك واسعة، ونظراً لأن المؤرخين كانوا إلى جانب الحكام وقادة الجيش والملوك فكتبوا عما شاهدوه أو سمعوه في عهدهم. أما المجتمعات التي كانت تكافح ضد الإستبداد والحكام الجائرين والملوك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ظل الله على الأرض، فلم يجدوا من يكتب تاريخهم إلا النذر اليسير، مما جعل كفة التاريخ تميل إلى الطرف القوي كما ذكر المؤرخون أنفسهم.

الإمبراطوريات التي نشأت عبر التاريخ لم تكن تابعة لقومية محددة أو أثنية محددة نظراً لأنها كانت تعتمد على نهب الخيرات من طرف بعض الحكام أو الملوك والتبعية كانت تعتمد على مدى المنفعة. فحتى لو كانت عواصم الإمبراطوريات في أثينا أو روما أو القسطنطينية أو دمشق أو بغداد أو موسكو كانت تكتسب صبغة المصلحة والإستغلال ولا تهتم بالتبعية الأثنية. فحتى في الإمبراطوريات الإسلامية مثل الأموية والعباسية أو الأيوبية أو العثمانية لم تكن أبداً تتخذ الصبغة القومية وإنما الدينية، وكذلك بالنسبة للغرب الذي تبنى المسيحية في القرن الثالث باتت الإمبراطوريات تتخذ صبغة المسيحية قيل أن تنقسم إلى غربية كاثوليكية وشرقية أورثوذكسية.

مع نشوء الدولة القومية بدأت كل قومية أو أثنية تبحث في جذورها التاريخية، وتقوم بكتابة تاريخها ونسبها من جديد بما يخدم قوميتها وأثنيتها، فبات لكل دولة مؤسساتها التي تهتم بالتاريخ وتعيد كتابته بما يخدم الدولة القومية التي ترعى تلك المؤسسة وتدفع رواتب العاملين فيها. وكمثال على ذلك عندما جاءت أسرة البهلوي إلى الحكم في إيران التي هي وريث الفرس، قام الشاه (الملك) باستدعاء بعض المؤرخين الغربيين ليكتبوا تاريخ البلاد بما يخدم أسرة البهلوي فقاموا بكتابة تاريخ يمتد لألفين سنة وربطو الأسرة البهلوية بالإمبراطورية البرسية. وكذلك الدولة التي التركية التي ورثت العثمانيين، مع العلم أن سياسة التتريك هي التي تسببت في إنهيار وتشتت الإمبراطورية، إلا أن الدولة التركية تبنت تاريخ العثمانيين وصقلته بما يخدم القومية التركية، ولا زالت هذه المؤسسات (مراكز اللغة والتاريخ) تقوم بانتقاء ما يخدم الغرض الذي تأسست لأجله.

أما الشعوب والأثنيات التي لم تتمكن من تأسيس دولتها القومية فبقيت كـ”اليتيم على مائدة اللئيم” تحاول البحث عن تاريخها في فتات ما كتبته مؤسسات هؤلاء اللؤماء، أو في المراجع التي كتبها بعض المؤرخين المنصفين وهم قلائل، أو من المراجع الشحيحة التي كتبها بعض المتصوفين الذين هربوا من جور الظالمين وعاشوا في كهوفهم أو صومعاتهم المنزوية في الجبال أو الأودية البعيدة عن متناول أيدي الظالمين. الآشوريون والسريان كانت لهم إمبراطوريات عريقة وهم الشعوب التي اغتذت الحضارة البشرية على القيم التي انتجوها إلى أن تبنوا الديانة المسيحية، وكذلك الأرمن الذي كانوا يحكمون إمبراطورية وصلت حدودها إلى البحر المتوسط. وكذلك الكرد الذين كانت إمبراطوريتهم الميدية تمتد من الهند إلى البحر المتوسط بديانتهم الزرادشية التي سادت كل المعمورة قبل المسيحية، ولا زالت متبعة في بعض البقع، وتأثيرها واضح على كل الديانات والمعتقدات اللاحقة، وهم الذين أسسوا الإمبراطورية الأيوبية التي حكمت الشرق الأوسط على مدى قرنين.

هذه الدولة القومية التي تسببت في تذابح الشعوب والأقوام والأثنيات لم تكتفي بذلك، بل سرقت كل ما استطاعت من تراث تلك الحضارات وجعلتها ملكاً لها على الورق، وحاولت إقناع الشعوب أولاً بذلك، ثم إقناع العالم بعراقة قومياتها، فهل كان ابن سينا عربياً أم فارسياً أم تركياً؟ فالكل يتنازع عليه، وكذلك الفارابي وابن خلدون، وآلاف المفكرين والمبدعين الذين ظهروا في هذه البقعة وساهموا في الحضارة البشرية بفكرهم وابتكاراتهم.

نحن نرى أن الإنتماء إلى أية قومية أو أثنية هو حق كل إنسان وكذلك الإفتخار بأصله وفصله، ولكن أن يصبح ذلك ذريعة لإستعباد الآخرين، ومسحهم من التاريخ وكأنهم ظهروا فجأة وإنكار وجودهم والإستيلاء على تراثهم ومنجزاتهم ومساهماتهم في الحضارة البشرية. فهو أمر مرفوض. ناهيكم عما تقوم به الفصائل المرتبطة بهم من تدمير آثارهم الموروثة للبشرية عبر التاريخ، كما فعل طالبان بتدمير تماثيل بوذا أو ما فعله داعش في نينوى.

والخلاصة هي أننا نفرأ التاريخ المزيف الذي كتبته الدولة القومية، وعلينا إعادة النظر فيما تعلمناه منه، لنعرف التاريخ الحقيقي للشعوب وليس تاريخ إحتكارات السلطة.